إلى ملحق "شباب" في جريدة "الحياة" الغراء تحية طيبة وبعد، فأنا من المعجبين بهذا الملحق المتميز... الرائع. لذا ارسل لكم هذه اليوميات التي كتبتها عن أيام أمضيتها في مدينة أخرى غير مدينتي ككل الطلاب، وأتمنى أن تروقكم وأن تجد طريقها للنشر، وتقبلوا مني، في كل الأحوال، كل الشكر والتقدير والاحترام. طنجة كيف لا أعشقها؟ كيف لا تعشقها أنت؟ هي لا تلتفت إلى عشقي، تصفعني، تلطمني، تعتصرني في ليلها الضائع، في طرقاتها، في كل شارع، تدرك - هي - انني لا استطيع لها فراقاً، كيف افارق عشيقتي وحبها يتسلل - بوقاحة - إلى شراييني، يتركني كالمعتوه أخيط حواريها الرائعة محاولاً أن أصل إلى قلبها، لكنها لا زالت تبتعد وتبتعد عني، انها الأرض التي تحملك دون ان تسألك من أنت... كيف لها ان ترمي بأحدهم إلى الخارجي، فما بالك بي أنا... انا ابن جلدتها، التائه، الجريء أحياناً، المتهور أحياناً أخرى، سألتني يوماً: هل تستطيع أن تفارقني؟ مغرورة هي، وقحة، مستفزة إلى أبعد الحدود. وأنا اكره المغرورات وأكره - أكثر - الوقحات، لذلك أجبتها بعد تفكير أني - رغماً عن أنفي - لا استطيع ذلك. وترغمني الظروف على السفر إلى مدينة تطوان، وأتركها وحيدة، مستغربة، كيف أخلفت وعدي وأنا الذي قلت اني لا استطيع لها فراقاً، لكنها لم تكن تدرك انني مقسم على العودة، ولو بعد شهور، ولو بعد سنين... لقد سكنتني اللعينة وسكنتها، لذلك سأعود... سأعود. كنا أربعة شبان فخورين بشبابنا، نعم، حسنو الهندام طبعاً، سعداء، ربما، لكننا - حتماً - لم نكن ندرك ما ينتظرنا في تطوان. في ذلك الصباح ركبنا الحافلة المتجهة من طنجة إلى تطوان. ايوب، ابن خالتي، له تجربة سابقة، قضى عامه الدراسي الماضي هنا. كريم أيضاً. أخي عبدالإله - مثلي - يعيش التجربة للمرة الأولى. اشتريت جريدة لم أكن أدرك أنها رصيفية من جرائد الرصيف. لكنها استطاعت - الجريدة - ان تجعلنا نضحك ملء أفواهنا طول الطريق التي استغرقت ساعة كاملة. إن سيبويه كان سينتفض من قبره لو قرأ ما قرأناه، وأي صحافي يحب مهنته كان سيفقد صوابه لو طالع تلك المقالات. وأقول هنا، المقالات تجاوزاً فقط. على أي أذابت تلك الجريدة ذلك الحاجز الذي يوجد دائماً بينك وبين شخص لا تعرفه، واستطعنا نحن الثلاثة أن نقترب من كريم أكثر كما فعل هو الشيء نفسه. عندما نزلنا في تطوان قال ايوب إن قلبه ينقبض كلما حل بتطوان. كريم لا يهتم بهذه الأشياء. أنا وأخي ننظر بفضول إلى ما حولنا. لم تكن تلك هي الزيارة الأولى للمدينة على رغم ذلك لم نكن نعرفها جيداً، فالزيارات السابقة كانت خاطفة. من أين نبدأ؟ كان هذا هو السؤال الذي تردد على ألسننا. المحنش حي شعبي قرب كلية العلوم وهو نقطة البداية المثالية، هكذا قال صاحبانا الخبيران. هما يعرفان جيداً المنازل التي يستعملها أصحابها لكراء، اقتراحاتي غالباً ما تكون فاشلة بهذا المنزل أو ذاك. بدأت الدهشة تنسحب بهدوء يتبعها ذلك الفضول الغبي، وأصبحت طرقاتنا على الأبواب تحمل من الجرأة الكثير. ادخلنا أحدهم وأرانا المنزل. كان جيداً، لكن الثمن لم يكن مناسباً. كثيرون وعدناهم اننا سنعود. لم نفعل ذلك بالطبع. لأننا وجدنا المنزل المناسب بعد أن كادت أقدامنا تصرخ ألماً، اتفقنا مع السّي عبدالسلام على ثمن معقول على أن نعود في الغد لنؤدي له الثمن، كان يجب ان نؤدي له ثمن الشهور كلها. هو شرط الجميع ولم يكن عبدالسلام استثناء، وأسقط في أيدينا، كان علينا أن نحضر له الثمن بأية طريقة... ولم تكن عودتنا سعيدة بالمرة، لأننا سنحمل لآبائنا أخباراً تجعلهم يفكرون ألف مرة قبل أن يقرروا أنه يجب أن نتابع الدراسة بأي ثمن... ويا له من ثمن! عدنا في اليوم التالي، وجدنا عبدالسميع - الوافد الجديد - في انتظارنا، قال كريم إنه من مدينة الشاون. أدينا الثمن لصاحب البيت. كريم علق على الأمر بأن صاحب البيت استغلنا أبشع استغلال، كنا قد دفعنا له ثمن كراء العام كله. البيت يتكون من طابقين، الطابق الأرضي كان لنا... والطابق العلوي كان لطلبة آخرين لا نعرفهم، واستعدت أرض تطوان لحملنا بعد أنهينا اجراءات الكراء، وبعد ان نقلنا الأمتعة إليها استعملنا لهذا الغرض إحدى سيارات نقل الأمتعة. صاحب السيارة أخبرنا بأمانة ان الكوابح لا تعمل جيداً. والاختيار لنا. أيوب كان يعرفه... والمقربون أولى. "من لم يمت بالكوابح مات بغيرها"، لذلك توكلنا على الله وليكن ما يكون. لحسن الحظ لم تنقلب بنا السيارة، الكوابح أدت عملها على الوجه الأكمل. كريم وعبدالسميع لم يكونا معنا. عندما وصلنا وجدنا كريم هناك. كان نائماً. عبدالجواد - ابن خالي الوافد السادس والأخير - قال إنه لم يستسغه. بداية غير مبشرة. هكذا فكرت. عاد الجميع إلى طنجة وبقيت أنا مع كريم. الآخرون سيعودون لاحقاً. إنها مرحلة جديدة من حيواتنا تطل بهدوء. المغرب - عبدالواحد استيتو