إحتضنت أندونيسيا الإسلام كغيرها من شعوب المناطق المجاورة لها وتمثلته عقيدة وسلوكاً، تجاوز إطار الشعائر الدينية إلى نظم الحياة الدقيقة. وقد كُتب للإسلام أن يستقر في هذه الديار كما استقرت ديانات وحضارات أخرى من قبل، حيث يدين به اليوم أكثر من 90 في المئة من الشعب الأندونيسي. ولا غرابة في أن ينتشر الإسلام في أول عهده بالمناطق التي ظلّت تأثيرات الحضارة الهندية عليها قوية، ولعل الذي زاد من إقبال أهل أندونيسيا على الإسلام ان الذين حملوه إليهم كانوا تجاراً ولم يكن ثمة من حملات عسكرية إلا في فترات لاحقة فرضتها دوافع سياسية بالأساس لا علاقة لها بنشر الإسلام أو الفتوحات. وكان الطريق التجاري الرئيسي بين الأرخبيل ومناطقه الغربية هو مضيق مالاقة. وقد كان أمراء منطقتي سومطرة ومالاقة أول من باشروا علاقاتهم مع التجار المسلمين من العرب والهنود الذين كانوا يجوبون المياه المحيطة بالأرخبيل، وتكون الإعتبارات الإقتصادية والسياسية من الأسباب القوية التي جعلت أولئك الأمراء يعتنقون الإسلام. وكانت سامودرة الواقعة على الساحل الشمالي الشرقي من جزيرة سومطرة أهم الإمارات الإسلامية التي تأسست في أندونيسيا. وقد بدأت تؤدي دورها الحضاري ووظيفتها السياسية تحت لواء الإسلام منذ سنة 1300م. وكان لها، ولغيرها من الإمارات الإسلامية الناشئة وقتها، دور في تراجع مملكة ملايو التي ظلت قلعة تدافع عن الثقافة الهندية بأندونيسيا، الى داخل سومطرة الوسطى باتجاه منطقة مينانغ كابو. وفي النصف الثاني من القرن الرابع عشر ظهرت إمارة باسي بسومطرة والتي انضوت لاحقاً تحت حكم مالاقة التي بسطت سيطرتها على معظم مناطق الجزيرة وتحولت الى مدينة تجارية رئيسية في الأرخبيل الى غاية القرن السادس عشر الذي شهد بداية الحملات الأوروبية، حيث تمكن الهولنديون من غزو أندونيسيا ليسيطروا على تجارة التوابل ويحتكروها لأنفسهم بعد ذلك. وقد أحدث الإسلام تحولات عميقة على صعيد الحياة الروحية والإجتماعية بأندونيسيا مع بروز مساع لترقية التراكمات الثقافية والفنية السابقة وتكييفها مع جوهر العقيدة. وهكذا سمح الأندونيسيون لأنفسهم بالإحتفاظ بقسط كبير من تراثهم وأغنوا به الثقافة الإسلامية، وتمّ تبنّي بعض العادات والتقاليد القديمة خصوصاً في فن العمارة، واستلهم كثيراً من نمط فن يافا الشرقية في بناء المساجد. ويحتل الأولياء مكانة كبيرة في العالم الروحي لليافانييّن الذين بدأوا يقبلون على الإسلام منذ القرن الخامس عشر الميلادي. وترجموا تلك المكانة بتشييد العديد من الأضرحة والمقامات فوق الجبال. وكان لأولئك الأولياء دور سياسي بارز وتأثير على الأمراء. ولا ينسى التاريخ السمعة التي ظل يتمتع بها كل من برابو سادماتا في نهاية القرن الخامس عشر والذي عرف بعد وفاته باسم سونان جيري، أي ولي الجبل، وكذا الولي فلاتيهان الذي أرسله سلطان إمارة دماك الى يافا الشرقية للقضاء على الديانة الهندية بها ثم أقام فيها دولة بنتام واستولى على الميناء الرئيسي سوندا كلابا الذي اخذ اسم جكارتا منذ ذلك الحين. وعرف هذا الولي في ذاكرة الناس باسم سونان جاتي، نسبة الى القمة الجبلية التي دفن بها. وهو أشهر الأولياء على الإطلاق. وقد ترك الإسلام بصماته على الحياة الإجتماعية لإمارة يافا على رغم مظاهر التشبث بالماضي التي تجسدت في بعض جوانب الحياة الثقافية. لكن يافا فقدت طابعها المعماري القديم وانحسر فن النحت فيها واحتفظت، مقابل ذلك، ببعض الفنون الزخرفية التي ازدهرت أيضاً في يابارا وقدس وجزيرة مادورة، حيث عرفت في هذه المناطق المدارس الكبرى في النحت على الخشب. وقد ازداد الإهتمام بهذه الفنون في عهد السلطان أغونغ الذي ركّز جهوده على البناء الداخلي غير عابئ بالصراعات الخارجية. وبحسب العرف فإن بيكيك أمير سورابايا وصهر السلطان كان الراعي الأكبر لهذه الفنون. وعلى رغم الأهمية التي كانت تكتسبها هذه الفنون فإن فنّين منها ظلاّ يتمتعان بعناية خاصة، هما الرسم على القماش والأسلحة. وتختص يافا ومادورة باحتضان فن الرسم على القماش. وتكاد هاتان المنطقتان تكونان المصدر الأول لهذا الفن الذي عرف في مناطق أخرى من أندونيسيا أيضاً. ولم يتمكن الرسم على القماش من التحول الى احد الفنون الزخرفية المهمة إلا بعد اعتماد تقنية جديدة تتمثل في تعميم استعمال خزان صغير من النحاس مجهّز بأخاديد تسهّل رسم خطوط ذات أعراض متباينة. ويعود تاريخ اختراع هذا الجهاز البسيط والفعّال الى القرن السابع عشر. وتتركب الزخرفة الهندسية من مستطيلات منفصلة لا يستعمل فيها سوى لون واحد. ويعد نموذج البانجي من اقدم الرسومات التي يتمثل فيها فن الرسم على القماش احسن تمثيل. وقوام هذا النموذج شكل الصليب الهندي المعقوف الذي يتكرر عبر مساحة القماش بالاعتماد على ربط الرسومات ببعضها البعض بطريقة واحدة. وتتكوّن الزخرفة في هذا الرسم من عناصر فنية دقيقة ومتماسكة، النموذج فيها اساسي، فيما يبدو التشكيل الهندسي ثانوياً. ويتم في الغالب رسم الخطوط على المساحة المراد زخرفتها ثم توضع النماذج داخل الأشكال المحصل عليها والتي هي ذات قياسات هندسية ابرزها المربعات والدوائر والمعيّنات والمستطيلات. ويمكن تصنيف الرسومات الهندسية التي تخضع لهذه الكيفية إلى مجموعتين بارزتين هما: مجموعة الرسومات الهندسية التي تفصلها خطوط أفقية وعمودية ومجموعة الرسومات الهندسية التي تفصلها خطوط مائلة. ومن المجموعة الأولى يمكن الحصول على عدة نماذج كالتجيبلوكان وهو شكل زهري مستدير او بيضوي او مربّع، والغانغونغ الذي يتخذ شكلاً مربعاً او نجمياً، والتونبال الذي تعدد فيه الأشكال. اما نماذج المجموعة الثانية فتتميز بأشرطة عريضة متوازية ومرسومة بشكل مائل على القماش مؤطرة بخطوط منحنية وشريط من النجوم. وأضيفت الى هاتين المجموعتين مجموعة ثالثة تركّز في نماذجها على الازهار والأوراق وتعرف بالسمان. وتتجانس في هذه النماذج رسومات الحيوانات وبعض الأشكال الهندسية مع الازهار والأوراق مما يعطي حيوية اكبر وتنوعاً في الأشكال والأبعاد والألوان، وهو ما يجعل بعضها شبيهاً بالرسومات الصينية المعروفة. ومعلوم ان الرسومات الاكثر قدماً كانت تستعمل لوناً واحداً قبل خرق هذا التقليد بإضافة اللون الأزرق الى الأسود ثم التفنن لاحقاً في مزج الألوان والإفراط في استعمالها على نطاق واسع. وكانت الألوان تستخرج من النباتات. وإذا شاع داخل بعض الإمارات الإسلامية استعمال اللونين البني والأبيض، فان المناطق التي كانت تقع خارج حدود هذه الإمارات كانت تحبّذ استعمال اللونين الأصفر والأحمر. وكان الفنانون يتنافسون في الرسم على القماش ويحرصون على بذل اقصى قدراتهم الإبداعية في المناسبات والأعياد. وكانت حياة اهل يافا الوسطى تزخر بهذه الأقمشة التي لم ينافسهم فيها شعب من شعوب الأقاليم القريبة والبعيدة. وتطورت صناعة الأسلحة في مناطق كثيرة من أندونيسيا، حيث تعدّت وظيفتها الأساسية كوسيلة للحرب او الدفاع عن النفس الى اتخاذها مظهراً رسمياً في الاحتفالات. ولذلك اشتد الاهتمام بإتقان صناعتها وزينتها حتى عدّت من الأشياء الأكثر نفاسة وجمالاً وكانت محل تنافس الأندونيسيين خصوصاً في يافا التي لا يستكمل الحديث عن فنونها وصناعتها من دون الحديث عن الأسلحة. ولم يكن صانع السلاح حرفياً فحسب، بل كان يجمع الى ذلك الفن. وكانت الحدادة مهنة مقدسة يشاد بها في مراسيم الاحتفال. كما كان ينظر إلى المكان الذي تمارس فيه بكثير من الإحترام، بوصفه - وحسب اعتقادات قديمة - المكان الذي يؤدي فيه أحد الأعمال التي علمتها الآلهة الإنسان. وكذلك ظهر هذا الإحترام في القصص والخرافات والأشعار. وظل السيف الوسيلة المحببة الى قلوب الأندونيسيين، وهو الذي حظي بأكبر مقدار من الرعاية في الصناعة والزخرفة. وهناك شكلان معروفان للسيف في يافا: احدهما السيف ذو القطعة الواحدة، حيث يأتي النصل والمقبض امتداداً واحداً غير مجزئ، ويحظى المقبض بزخرفة بسيطة. أما الآخر فيبدو الفصل فيه واضحاً بين النصل والمقبض الذي لا يخلو هو أيضاً من زينة. وتجهل الجذور الأولى على ما يعتقد انه النموذج الأصلي، وهي قطعة تعود الى العام 1300م، وكان هذا النموذج يتمتع بمكانة خاصة عند اهالي بالي لم يعرفها بين اوساط سكان يافا حيث تتعزز المكانة الإجتماعية والروحية لصانع السلاح أيضاً. وامتد شغف الأندونيسيين بالجمال والفن الى عالم الموسيقى وتجسدت براعتهم وخصوصيتهم فيها في ما يعرف بجوق الجاملان الذي يعتمد على النقديات التي يؤدي تناغمها الى إحداث إيقاعات موسيقية هي من الغرابة بحيث لم تعتد عليها الأذن الشرقية ولا الغربية. ويعتمد فيها سلّم موسيقي خاص ومتميز يستجيب للأذواق المحلية، ولا يخضع هذا النظام الى قواعد موسيقية واضحة وإنما يعتمد على ما تمليه اللحظة من اجتهادات على الموسيقي. وتؤدي موسيقى الجاملان معزوفات منفردة او مصاحبة لأصوات او رقصات الواينغ توينغ والواينغ يونغ. وتتعدد فيها الآلات الموسيقية الرئيسية منها وتلك التي تستخدم لتنويع الأنغام وإحداث التأثيرات المرجوّة. ويعدّ الطنبور بأحجامه المختلفة والقضبان الحديد المقوّسة والناي وبعض الوتريات المحلية أهم الآلات الموسيقية التي تؤدى بها الأنغام. وإلى جانب الموسيقى لعب الرقص دوراً بالغ الأهمية في حياة الأندونيسيين خصوصاً في الإحتفالات الرسمية والأعياد. واشتهرت رقصة البجادا التي تؤديها تسع نساء ورقصة السيرمبي التي تؤديها أربع فتيات ورقصات شعبية أخرى انتشرت في يافا الشرقية. وفي ميدان الأدب أخذت اللغة المالوية مكان الصدارة وأصبحت هي لغة الثقافة والكتابة في كل الأرخبيل. وهي التي حملت أدب الأندونيسيين خصوصاً تلك الحكايات الرائعة. ويمكن تمييز فترتين مرّ بهما الأدب الأندونيسي وقتها: الفترة الكلاسيكية التي عرفت أوجها في بداية القرن السادس عشر، وفترة ما بعد الكلاسيكية التي تمتد الى بداية القرن العشرين. وتعدّ الأعمال الأسطورية والتاريخية كحكاية هانغ تواه وحكاية سجارا ملايو من أبرز ما عرف الأدب الأندونيسي. لكن، وخلال الفترة الثانية، ظهرت أعمال قصصية كثيرة، في الشعر كما في النثر، متأثرة بالآداب العربية والفارسية والهندية. وتروي معظم الحكايات مآثر أبطال أندونيسيا وملوكها وأمرائها على مرّ الزمان. وكانت قصص الأمير حمزة أكثر شعبية. كما يعد عبدالله بن عبدالقادر مونشي أشهر كتّاب القرن التاسع عشر، واشتهر له كتاب: حكاية عبدالله في الرحلة. ويلاحظ تأثير الثقافة الإسلامية في الأدب الأندونيسي واضحاً وقوياً في حين يبدو هذا التأثير نسبياً ومتفاوتاً في كثير من الفنون الأخرى، ولم تستطع فترة التواجد الأوروبي بالمنطقة ان تحدث تغييرات جذرية في البنية الثقافية والإجتماعية لأندونيسيا، حيث ظلت تحتضن تراث الأجداد وتطوره في تأنٍ دونما انفصال عن الجذور.