إنه حجاب امرأة يطفو في الهواء! لا، بل بساط علاء الدين السحري. لا هذا ولا ذاك، هو خيمة بلون الرمال يداعبها هواء الصحراء...تشبيهات هنا وتخمينات هناك. تمتمات، آهات... هذه هي الحالة التي خلّفها مشهد الوشاح المذهّب الذي يُظلّل أحدث أجنحة متحف اللوفر الذي افتتح امس أمام الجمهور وهو «فنون الإسلام». الحاضرون من الوفد الإعلامي الدولي لم يخفوا إعجابهم بالهندسة المعمارية للبناء الجديد. الواجهة التي خرجت من تحت فناء «فيسكونتي» لتعلق كغيمة بين الأرض والسماء، حيّرت بغرابتها الحاضرين. العيون اتسعت من الدهشة والوجوه تسمرّت أمام بناء معماري، يبدو للوهلة الأولى، مصنوعاً من القماش. فغدا شكل الواجهة الإيحائي أشبه بأحجية انشغل الكلّ في حلّها، ولما بدا الاتفاق على رأي واحد صعباً، توجهت الأنظار إلى المهندسين المعماريين اللذين صمّما البناء، ماريو بيلليني ورودي ريتشيوتي، علّهما يقطعان الشك باليقين. حجاب؟ خيمة؟ بساط؟. «أجدها أقرب إلى جناح اليعسوب الطائر»، أجاب بيلليني مبتسماً. وردّاً على الاستفهامات التي طرحتها نظرات الحاضرين، أضاف ريتشيوتي: «وأنا أرى فيها حركة أنثوية، متمايلة كخطوة امرأة». المهندسان اللذان اشتغلا سنوات طويلة على تصميم واجهة «فنون الإسلام» لم يحددا الشكل الذي صمّماه، بل زادا الأمر تعقيداً بإضافة احتمالات جديدة إلى ماهية الواجهة التي تنتصب بجمالها الهندسي وجرأتها المعمارية متحدية رائعة الصيني إيّو مينغ باي وهرمه الزجاجي الشهير في اللوفر. أيّ من الطقوس الإسلامية تعكس هيكلية هذه الواجهة ؟ وإلى أي عادات ترمز؟ يُجيب بيلليني: «اتفقنا على أن تكون واجهة القسم الجديد انسيابية الشكل، بمعنى ألاّ تكون ذات شكل هندسي محدّد كما في الهرم الزجاجي الذي يتوسط الباحة الخارجية للمتحف. أردنا تقديم فكرة جديدة لا تُمثّل شيئاً بعينه بل أشياء عديدة من الحضارة الإسلامية الواسعة. فكانت فكرة الوشاح المتموج التي لا تفرض قالباً محدداً بل تترك للناظر حريّة التفكير والتخيّل بما يريد». ولوج عالم «فنون الإسلام» يُشبه رحلة استكشافية عبر الزمان والمكان. والانتقال من زاوية إلى أخرى يسمح لك بمزيد من التوغّل في الحضارات والتاريخ. فالقسم الذي تُديره صوفي ماكاريو يتألّف من طبقتين بُنيتا لهذا الغرض بالذات، في الطبقة الأرضية تمّ وضع التحف والأعمال الفنية من القرن السابع إلى القرن الحادي عشر، وفي الطبقة السفلى (تحت الأرض) التي حُفر لها 12 متراً عمقاً عُرضت المقتنيات والتحف النادرة التي وصلت من الحضارة الإسلامية الممتدة على أربعة عشر قرناً. علاوة على مجموعة رائعة من السجاد الهندي والفارسي المصنوع بعضه من الكشمير والذي استُخدم بعد وصوله إلى أوروبا في القرن التاسع عشر في تزيين الكنائس أثناء إقامة الاحتفالات والمناسبات الملكية الكبرى كالزفاف والعمادة والتأبين والتنصيب... أما الإطارات التي تُغلّف القسم الجديد، فجاءت كلّها من الزجاج الشفاف الذي اختاره عمداً المتخصص في هندسة المتاحف رونو بييارد، كي تكون الأعمال المعروضة في القسم مفتوحة بعضها على بعض، الأمر الذي يُولّد لدى الزائر شعوراً بأن هناك حواراً قائماً بين مختلف القطع الفنية والتحف الآتية من حضارة عظيمة امتدّت على ثلاث قارات. كنوز الفن الإسلامي وأضاف بييارد أنّه فضّل في كثير من الأحيان عدم وضع القطع داخل علب مقفلة بغية أن يُقلّص المسافة بين الزائر والتحف الفنية الآتية من دول عدة وإنما حضارة واحدة هي «الإسلام». الرحلة داخل قسم «فنون الإسلام» تبدأ من حضارة الأندلس التي خلّفت كنوزاً فنية أقلّ ما يُقال فيها إنها رائعة. «علبة مجوهرات المُغيرة» هي من أروع الأعمال التي تشعر أمامها بقيمة تلك الحضارة وعظمتها. هذه التحفة المصنوعة من أنياب الفيل العاجية وُجدت في إسبانيا (مدينة الزهراء في قرطبة) في القرن الخامس عشر، أهداها صانعها إلى أصغر أبناء الخليفة عبد الرحمن الثالث «مُغيرة»، واللافت فيها هي النقوش والرسوم التي تجسد حياة الملوك والأمراء في ذلك الزمن. فالفرسان يتوسطون العمل من الجانبين، وصورة الصقر الذي طالما كان رمزاً لمجد الملوك في الحضارة الإسلامية وقوتهم، منقوشة أكثر من ست عشرة مرة على العلبة نفسها، وكذلك تتكرر صورة الأسدين يلتقطان فريستيهما للدلالة على الشجاعة والإقدام. وفي الوسط عبارة حفرها الفنان على العلبة العاجية: «بركة من الله ونعمة وسرور وغبطة لابن مغيرة بن أمير المؤمنين رحمه الله مما عُمل سنة ثلاثمئة وسبع وخمسين». ومن التحف التي تخلب الألباب «أسد مونزون» البرونزي (إسبانيا بين القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر)، واستُخدم هذا الصنيع الثقيل في أحد قصور الأندلس الملكية كنافورة مياه حُفرت عليها جملتان فقط «بركة كاملة نعمة شاملة». واللافت من خلال معظم الأعمال المعروضة في هذا القسم، أنّ الفنان الأندلسي «المسلم» لم يكن يكتفي بصنع التحفة ونقش الصور عليها، إنما كان يحرص دائماً على تدوين عبارات تُمجّد الله أو تُثني على الشخصية التي سيُهدى إليها العمل. وخلال الرحلة الجميلة في قسم «فنون الإسلام»، يرتقي الزائر داخل الزمن لينتقل من حضارة إلى أخرى، فيخرج من «الأندلس» إلى حضارة بلاد الشام أو سورية الكبرى التي اشتهرت بفنونها وخصوصاً فنّ الموزاييك الذي اقترن بالفنون الإسلامية عموماً والمساجد الدمشقية بخاصة. وأمام لوحات ونماذج وقطع فنية متجاورة، يُذهل الزائر لجمال هذا الفنّ الذي ارتبط بالحضارة الإسلامية ارتباطاً وثيقاً حتى غدا واحداً من إرثها الثقافي والفني. ويضم القسم مجموعة عظيمة من السيراميك التي تُشكّل أيضاً أحد أكبر كنوز الحضارتين الشامية والمصرية القديمة. ومن خلال قسم «فنون الإسلام» في اللوفر يتكشّف للزائر أنّ الرسم والحفر على السيراميك لم يتحوّلا إلى فنّ مستقلّ ومتطور ومبتكر إلاّ في ظل الحضارة الإسلامية، تحديداً في العراق وإيران وسوسة ونيشابور. ومن «سورية الكبرى» ينتقل الزائر إلى زمن «المماليك» حيث يقع على أعمال وتحف ومقتنيات هي قمّة في الإبداع الفني والإنساني مثل «جرن سانت لويس للمعمودية». هذه التحفة قد تكون من أجمل أعمال هذا القسم، وهي تعود إلى «محمد ابن الزين» الذي بدا فخوراً بما صنعت يداه إلى حد أنه دوّن اسمه ست مرات على الجرن بعبارة «عمل المعلم محمد ابن الزيد». هذا الحوض المعدني المُرصّع بالذهب والفضة نُقشت عليه صور أمراء وفرسان المماليك والحيوانات المائية من الداخل والبريّة من الخارج. وبحسب البطاقة التعريفية كان يستخدم الحوض أمراء المماليك في موائدهم لغسل أيديهم، ولكن بعد سقوط المماليك استولى عليه غزاة الغرب ليصل إلى كنيسة «القديس لويس» حيث استُخدم في تعميد أكثر من ملك من أهم ملوك فرنسا. بين المماليك والعثمانيين ويحتوي الجناح المصري في قسم «فنون الإسلام» على مجموعات ضخمة من النصوص والمخطوطات المكتوبة بالخط العربي القديم. علماً أن الخط العربي كان موجوداً في معظم أعمال الحضارة الإسلامية خلال ألف ومئتي عام، وكان تأثيره واضحاً في الأعمال الفنية كلها على اختلاف أزمنتها وأمكنتها، ذلك لأن الخط اعتُبر دوماً ملهم الفنان «المسلم» أو المولود في بيئة إسلامية. ومن خلال زيارة قسم «فنون الإسلام» التي خُصصت له مساحات جديدة في المتحف الباريسي الكبير، يلحظ الزائر أنّ فنون الإسلام ظلّت رغم اختلاف تواريخها وجغرافيتها مترابطة ومتقاربة. ومع أنّ مظاهر الفن الإسلامي تجلّت في أكثر من ميدان كالخط والنقش والزخرفة والعمارة والنحاس والخشب والسيراميك والفخار، إلاّ أنّ النحت ظلّ وجوده خجولاً ويكاد يكون معدوماً في قسم «فنون الإسلام» في اللوفر. وربما لأسباب عقائدية تستبعد فكرة النحت، هجرت الفنون الإسلامية فن النحت،واتجهت صوب الزخرفة التي توهجّت في عصرها أكثر من أي حضارة أخرى. وبين القرن السادس عشر والثامن عشر يعرض «فنون الإسلام» أروع ما تركته الحضارة الإسلامية في إيران وتركيا وأرمينيا والهند، فنقع على مجموعات كبيرة من المنمنمات التي طبعت الفن العثماني، وعلى فنون زخرفية فارسية، ومجموعة رائعة من الخناجر والسيوف الهندية. بعد رحلة موغلة في التاريخ والحضارة، تخرج من هذا العالم الذي تفوح منه روائح الثقافة والفنون، مستعيداً قيمة العالم الإسلامي الذي لم نصادفه في متاحف كبيرة كاللوفر، إلاّ من خلال لوحات فنانين مستشرقين غربيين وقعوا في سحره حتى جعلوا منه ملهماً لأهمّ أعمالهم أمثال دو لاكروا وماتيس. «هذا المشروع الذي كلّف مئة مليون يورو سيُؤكد أممية متحف اللوفر من جهة، وسيُعيد للحضارة الإسلامية وجهها المضيء»، هكذا تُعبّر مديرة قسم «فنون الإسلام» صوفي ماكاريو عن فرحتها بإنجاز المشروع الذي بدأت بالتحضير له منذ عشرة أعوام. أمّا رئيس اللوفر ومديره هنري لوراييت فيعبر عن فخره بهذا المشروع قائلاً: «اليوم يكتسي اللوفر صفة العالمية بإعادة الاعتبار إلى واحدة من أهم الحضارات التي أثرت العالم بفنون وأعمال قيّمة لم تزدها السنوات إلاّ قيمة وجودة. ويُضيف: «عام 2001 قصدت الرئيس الفرنسي شيراك طارحاً أمامه فكرة إنشاء جناح ثامن. وعند سؤاله لماذا الإسلام وليس روسيا مثلاً، أجبته بما آمنت فيه دائماً: الإسلام أهم الحضارات التي عرفتها البشرية ومن غير اللائق أن يختصرها متحف عظيم مثل اللوفر ضمن قسم الآثار الشرقية فقط». وأكّد أنّ هذا العمل الذي تطلّب مئة مليون يورو ساهمت فيها شخصيات ودول مثل الأمير الوليد بن طلال وأمير الكويت وملك المغرب وسلطان عمان وجمهورية أذربيجان وبعض المؤسسات الأوروبية الخاصة، سيُكرّس دور «الإسلام» الريادي في أوروبا والعالم، وسيُعيد إلى متحف اللوفر دوره كصرح ثقافي يهدف إلى تلاقي الحضارات وتبادل الحوار بين الثقافات والشعوب. «فنون الإسلام» ، الجناح الثامن في متحف اللوفر، يتوسط فناء «فيسكونتي» المحاذي لنهر السين الشهير ليُعيد من قلب أوروبا النابض إلى العالم حقيقة الحضارة التي يحاول البعض طمسها عبر مصطلحات أُلصقت بالإسلام لصقاً كالإرهاب والأصولية والجهل والتعصّب. هندسة مبتكرة هندسياً معقد وهيكلياً بسيط... هكذا يُمكن وصف المفرش الذهبي الذي يُظلّ قسم «فنون الإسلام». الواجهة المبتكرة لقسم «فنون الإسلام» مغطاة بآلاف المثلثات التي شكلها بيلليني بيديه من مادة الألومنيوم الذهبي التي تسمح بدخول أشعة الشمس بطريقة معدلّة. يتكون هذا المفرش أو «الوشاح» من ثلاث طبقات: ألواح زجاجية شفافة وطبقتين من المعدن الذهبي اللماع تغلفان الزجاج وتعطيانه اللون البراق الفاتح. الهندسة الثلاثية الأبعاد للواجهة الخارجية تطلبت تصميماً دقيقاً لتحديد الزوايا المائلة، فبدا المفرش أكثر «سماكة» وعلوًا على يمين أعمدة الدعم، وأكثر رقة على الحواف لتعكس تأثير التموجات. ويقول ريتشيوتي إنّ بناء قسم جديد لحضارة إسلامية شرقية في وسط بلاط تُحيطه القصور الفرنسية الكلاسيكية كان تحديا حقيقياً، إلاّ أنّ اختيار هذا الشكل البسيط والمموّج بمواد زجاجية ومعدنية كان الحلّ الأنسب للحفاظ على هوية المتحف الفرنسي من جهة وعلى هوية الجناح الإسلامي من جهة أخرى. ويعتقد مهندسو هذا الصرح الجديد أنّ الواجهة الخارجية ل «فنون الإسلام» ستلفت انتباه العالم كلّه وستغدو نقطة مهمة لزوّار متحف اللوفر. وصرّح المتخصص في هندسة المتاحف رونو بييارد أنّ التحدّي في هذا العمل هو عدم اختيار شكل هندسي محدد بل اعتماد هيكلية تبدو بسيطة من الخارج رغم تعقيدها الهندسي الكبير. يُذكر أن الجناح الثامن في متحف اللوفر «فنون الإسلام» يضمّ 15 ألف قطعة أثرية إسلامية تتوزع على 3000 متر مربع أي ما يُعادل ثلاثة أضعاف المساحة التي كانت مخصصة لها سابقاً.