شهد العام الماضي انهيار اسعار النفط الى مستويات لم تشهدها السوق منذ اكثر من 12 عاماً، بما فيها عام 86 عندما قررت السعودية التخلي عن سياسة الدفاع عن الأسعار، ما ادى الى تناقص انتاجها من اكثر من عشرة ملايين برميل يومياً الى أدنى من ثلاثة ملايين برميل، والعودة الى سياسة الدفاع عن حصتها في الأسواق العالمية، ما أدى الى انهيار الأسعار في حينها، والى عودتها الى معدلاتها الطبيعية. ولكن الوضع هذه المرة كان مختلفا تمام الاختلاف. فعلى رغم الاتفاق على خفض الانتاج من داخل "اوبك" وخارجها بنحو ثلاثة ملايين برميل، استمرت الاسعار في التدهور، متجاهلة كل المحاولات المبذولة لوقف ذلك التدهور الكبير في الأسعار!. والسؤال الذي يطرح نفسه على المهتمين بشؤون النفط من المسؤولين والمواطنين على حد سواء هو: لماذا انهارت الأسعار الآن؟ ولماذا لم تفلح كل المحاولات الجارية لايقاف هذا التدهور وعودة الأسعار الى سيرتها الأولى؟ لا يمكن للمحلل الاقتصادي الجاد ان يلقي باللوم على عامل اقتصادي دون الآخر في انهيار اسعار النفط، كما لا يمكن النظر الى هذه المشكلة المستحكمة من زاوية واحدة فحسب، اذ ان هناك مجموعة من العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المتشابكة التي ساهمت في الوصول الى هذا الوضع المأساوي بالنسبة الى الدول المصدرة، وخصوصا تلك التي تعتمد على صادراتها من النفط للحصول على الجزء الأكبر من دخلها الوطني. وسنحاول تلخيص اثر بعض العوامل الاكثر اهمية من وجهة نظري وحسب معلوماتي المتواضعة والتي ساهمت في وصول الاسعار الى ما وصلت اليه. أولاً: دور وكالة الطاقة الدولية انشئت وكالة الطاقة الدولية عام 1974 ومركزها الرئيسي في باريس من قبل الدول الصناعية الكبرى المستوردة للنفط بعد الزيادة الاولى في الأسعار التي قامت بها "أوبك" بعد حرب رمضان عام 73، بهدف التنسيق بين سياسات الدول المستوردة، على غرار "أوبك" التي نسقت بين سياسات الدول المصدرة. وكما كانت "اوبك" تسعى الى تحقيق مصالح اعضائها والعمل على زيادة الأسعار، كانت منظمة الطاقة الدولية تسعى ايضا الى تحقيق مصالح الدول الصناعية الكبرى المستوردة والعمل على خفض الأسعار! ونجحت الوكالة نجاحاً سريعاً في التخطيط والتنسيق بين سياسات الدول المستوردة واستطاعت بمهارة فائقة العمل على زيادة المعروض والمخزون من النفط داخل دول المجموعة نفط بحر الشمال، وألاسكا، والمكسيك، كما نجحت بشكل فاق كل التوقعات في الحد من استهلاك النفط داخل دول المجموعة سياسات الترشيد، إحلال بدائل للنفط، الفحم، الغاز، الطاقة الذرية، الطاقة الكهربائية،... إلخ، كما نجحت في اقناع الدول المصدرة ذاتها بأن العالم يواجه أزمة طاقة عالمية وان عليها التعاون مع بقية دول العالم لحل تلك المشكلة! واستجابت دول "اوبك" بحسن نية للجهود الغربية لحل ازمة الطاقة، كما استجابت لدعوة اعادة تدوير دولارات النفط، وهذه العبارة تعني اعادة صرف دخل الدول من النفط بسرعة كبيرة سواء في الداخل لاستيراد سلع انتاجية واستهلاكية، او في الخارج في شكل منح ومساعدات ومساهمات في المنظمات الدولية صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، او ايداعات في المصارف الغربية، وعدم ادخار تلك الثروات الطائلة للمستقبل! وقفزت الاسعار قفزات متتالية في فترة قصيرة نسبياً، اذ كان سعر البرميل في المتوسط حوالي ثلاثة دولارات مطلع عام 73، وتضاعف اكثر من ثلاثة اضعاف خلال عام واحد ليبلغ حوالي عشرة دولارات عام 74، وتضاعف اكثر من ثلاثة اضعاف خلال عام واحد ليبلغ حوالي عشرة دولارات عام 74، وهذه تسمى الصدمة النفطية الاولى. وبين عامي 74 و78 ارتفع سعر النفط بمعدل متواضع وبلغ حوالي 13 دولاراً، وقفز بعد الثورة الايرانية الى 29 دولارا عام 79م ثم الى 36 دولارا عام 1980، اي ان السعر ارتفع حوالي ثلاثة اضعاف اخرى في اقل من عامين الصدمة النفطية الثانية انظر جدول رقم 1. هذه القفزات السريعة والمتتالية خلال فترة قصيرة نسبيا سبع سنوات اثارت القشعريرة والخوف لدى الدول المستوردة في جميع انحاء العالم الصناعي واللنامي وسببت كثيرا من الارتباك والفوضى المالية لدى معظم هذه الدول، كما أدت الى حدوث عجوزات كبيرة في موازين مدفوعاتها الخارجية، وزيادة معدلات التضخم والبطالة، ودخول بعض الدول في حال ركود اقتصادي عميق. وانتهزت وكالة الطاقة الدولية هذه الفرصة لوضع سياساتها موضع التنفيذ وتسريع عملية الاحلال، والتي لاقت استحسان الدول الصناعية والدول النامية على حد سواء وتأييدها. كما ساهمت في تشويه صورة "أوبك" والعرب في أذهان الناس في الدول المستهلكة واصبحت اوبك تمثل الجشع الذي يريد امتصاص ثروات الشعوب! وكانت الوكالة تعمل ليلاً ونهاراً في جمع المعلومات والبحوث والدراسات المتعمقة بهدف الخلاص من قبضة "اوبك" بل اضعافها وتدميرها ان امكن، واعادة سوق النفط الى ما كانت عليه قبل 1973، ونفذت استراتيجيتها تلك على مستويين: - في المدى القصير: كان التركيز على خفض الاستهلاك بواسطة الترشيد الطوعي بتوعية المستهلكين من الاعتماد الكلي على استيراد سلعة مهمة من دول اجنبية والمخاطر السياسية المصاحبة لذلك، ثم الترشيد القسري عبر رفع اسعار المنتجات النفطية عن طريق الرسوم المتعددة والضرائب الباهظة ضريبة الكربون وزيادة التخزين الاحتياطي لضمان عدم حدوث صدمات اخرى، ثم التحول الفوري والتدرجي نحو البدائل الاخرى، بما فيها الفحم والطاقة الذرية على رغم ما تسببه من تلوث أو مخاطر على البيئة! - في المدى المتوسط والطويل: زيادة الاكتشافات النفطية في جميع مناطق العالم شرقا جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، والصين وغرباً الاسكا، وشواطئ كاليفورنيا والمكسيك وشمالاً بحر الشمال وجنوباً السودان واليمن. كما جرى اكتشاف حقول غاز جديدة في كثير من مناطق العالم ومددت انابيب لنقل الغاز الرخيص الى مناطق الاستهلاك المهمة، واستعملت الاكتشافات التقنية الجديدة لزيادة كفاءة المحركات التي تستعمل النفط السيارات، والطائرات، والمصانع وتحسين ادائها بنسبة وقود اقل، ولم تعدم اي وسيلة جديدة الا واستعملت لخفض الطلب على النفط وزيادة العرض من جميع وسائل الطاقة الاخرى. قطف الثمار لم تستطع الدول المصدرة التمتع طويلاً بحلاوة الاسعار المرتفعة، فمع نهاية 1980 ومطلع 1981 بدأت الاسعار في الهبوط التدرجي، فهبط سعر البرميل الى حوالي 34 دولارا، وأخذ في التدحرج الى اسفل عاماً بعد آخر. واصبحت وكالة الطاقة الدولية توجه سياسات الطاقة في الدولة الصناعية واستمرت في العمل باصرار على اعادة سوق النفط الى ما كانت عليه قبل عام 1973، عندما كانت الدول المصدرة تتنافس في ما بينها لبيع ما لديها بأي سعر كان. لم تكن اهداف وكالة الطاقة الدولية سرية او غير معلنة، بل كانت تنشر ما لديها من دراسات واحصاءات وخطط على الملأ. ثانياً: دور منظمة الدول المصدرة للبترول أوبك لا ينكر أحد دور المنظمة منذ انشائها عام 1960، في العمل على تنسيق السياسات النفطية للدول الاعضاء، والعمل لمصلحة اعضائها من الدول العربية وغير العربية من دون تفرقة او تحيز، وقدرتها على تعديل الأسعار الى قيمتها الحقيقية بعد عام 73 على رغم حدوث الصدمة الأولى، التي تمكنت الدول المستوردة من التكيف معها لأنها كانت تعكس في الحقيقة القيمة الحقيقية للنفط، وكانت امورها تسير في شكل جيد حتى نهاية عام 1978. وكانت الأسعار اصبحت تتزايد بمعدل يتناسب مع معدل التضخم العالمي والقوة الشرائية للدولار، ارتفعت الأسعار من 10.41 دولار عام 74 الى 12.91 عام 78. لكن المشكلة الاولى التي واجهت "أوبك" بعد قيام الثورة الايرانية عام 79م، هي حالة الذعر والتحسب لما هو أسوأ. وفجأة خرجت الأمور عن سيطرة اوبك واخذت الأسعار في القفز فوق جميع الحواجز السعرية. وبدل من ان تقوم اوبك بطمأنة الاسواق العالمية بضمان استمرار تدفق النفط بأسعار ثانية، انتهزت بعض دولها الفرصة ورفعت اسعارها الرسمية لمجاراة سعر السوق الذي بلغ حوالي 40 دولارا في بعض الاحيان. ووجدت "أوبك" نفسها في اول ازمة حقيقية منذ انشائها قبل 20 عاماً، اذ انقسم الاعضاء الى صقور وحمائم. وقد كانت حجة الصقور ان تلك كانت فرصة لن تتكرر وانه يجب رفع السعر الى مستوى السوق واغتنام الفرصة لتحقيق اكبر عائد ممكن في ظل الظروف السائدة. اما حجة الحمائم فكانت ان السعر الذي وصلت اليه السوق كان تحت تأثير ظروف غير عادية ستزول بزوال مسبباتها، وان ظروف العرض والطلب الحقيقيين لا تبرر هذه الزيادة الكبيرة. وانتصر فريق الصقور خلال الاجتماعات المتتالية التي كانت تتم في ظروف الأزمة، وثبتت "اوبك" رسمياً الزيادات المتتالية في الاسعار التي كانت تقودها المضاربات المحمومة في اسواق النفط الحرة، وبلغ السعر الرسمي لأوبك 36 دولاراً للبرميل عام 1980. وأظهرت التجربة التاريخية الآن خطأ تلك السياسة السعرية التي اتبعتها المنظمة وصواب وبعد نظر فريق الحمائم الذي لم يرد "ذبح الوزة التي تبيض ذهباً". وكانت الصدمة النفطية الثانية، والحق يقال، اشد وأعنف من الاولى، وكانت نتائجها سيئة جدا على الدول المستوردة في حينها وسيئة للدول المصدرة لاحقاً. وكان لپ"أوبك" دور آخر ومهم في الوصول الى الأزمة العالمية، وهو الخطأ الثاني في سياساتها السعرية، وفي معرفة حقيقة دورها في الأسواق العالمية وقوتها الحقيقية، اذ اصابها الغرور وظنت انها قبضت على زمام الامور وان العالم لن يفلح في الخروج من قبضتها بعد ذلك، لأنها تسيطر على 60 في المئة من انتاج العالم. وبعد انتهاء الأزمة وهدوء الاسواق وتراجع الاسعار في الاسواق الحرة، لم تتماش اوبك مع اتجاه السوق هبوطاً، ولم تعمل على خفض اسعارها بما يتماشى مع ظروف العرض والطلب، وظلت متشبثة بالأسعار القديمة ظناً منها ان تراجع الأسعار شيء مؤقت وان الطلب على نفطها سيعود الى الارتفاع عاجلا ام آجلاً! وحتى تبقي اوبك على اسعارها مرتفعة بطريقة مفتعلة، لا تواجه حقيقة الأسواق العالمية للنفط التي بدأت فعلا في التغير الفعلي، قررت "أوبك" تخفيض انتاجها المرة تلو الاخرى في محاولات يائسة للابقاء على السعر المرتفع. ووقع العبء الأكبر في خفض الانتاج على الأخ الاكبر في المنظمة، وصاحب الانتاج الأكبر، والاحتياطات المالية الأكبر، والقلب الأكبر. واستمرت السعودية في انتاجها من حوالي 11 مليون برميل يومياً عام 1980 الى ان وصل الى اقل من ثلاثة ملايين عام 1986. كما انخفضت حصة "أوبك" في الاسواق العالمية من اكثر من 35 مليون برميل الى اقل من 14 مليوناً، ومن 60 الى حوالي 30 في المئة من الانتاج العالمي! في تلك الاثناء كان الانتاج يتطور ويتزايد من الدول الاخرى خارج اوبك في ظل الأسعار المرتفعة والمجزية والمفتعلة التي وفرتها "أوبك" على رغم ارتفاع تكاليف الانتاج لدى الدول الاخرى وقبل تطور وسائل الانتاج والتقنية المتطورة وانخفاض الكلفة. وقدمت "أوبك" خدمة كبيرة للدول من خارجها خلال تلك الفترة العصيبة، ومن خلال اخطائها المتعددة في رسم سياستها النفطية والسعرية، وعدم ادراكها الكامل لحقيقة المتغيرات الهيكلية التي كانت تجري في الأسواق العالمية آنذاك! وقد نجحت المنظمة بين 1980 ومنتصف 1986 في الابقاء على الاسعار مرتفعة نسبياً، فلم تنخفض الا بمقدار بسيط من 36 دولاراً الى 5،27 دولار. ولكن منتصف عام 1986 تخلى الأخ الاكبر عن لعب دو رالمنتج المرن، بعد ظهور فشل تلك السياسة التي تتجاهل حقيقة السوق النفطية وتحاول التمسك بأمجاد الماضي. وهبطت الأسعار مباشرة الى اقل من النصف الى حوالي 13 دولارا للبرميل، وانزعج العالم المتحضر الذي كان يشكو دائما من ارتفاع الأسعار ويطالب بخفضها، اذ كان انخفاض الاسعار في ذلك الوقت يعني بداية حرب اسعار ستخسرها الدول من خارج اوبك، وتهديداً مباشر للشركات النفطية التي لم تكن بعد استرجعت تكاليف تطوير حقولها الجديدة، ودخولها في خسائر كبيرة قد تجبرها على غلق كثير من حقولها ذات الكلفة العالية، وقد تفشل كل الخطط التي وضعتها وكالة الطاقة الدولية منذ عام 74. ثالثاً: دور الولاياتالمتحدة لا يمكن للباحث ان يتجاهل دور اميركا في السياسة النفطية العالمية سواء من الناحية الاقتصادية او السياسية، وهنا يظهر مدى ارتباط السياسة بالاقتصاد. فمنذ اكتشاف اول بئر بترولية في العالم في ولاية بنسلفانيا عام 1859م، تنبهت اميركا الى اهمية هذا المورد الاقتصادي الاستراتيجي، لأن النفط بالمقارنة بمصادر الطاقة الاخرى المعروفة آنذاك الفحم كان خفيف الوزن وغنياً بالطاقة المحركة، ولم يكن من الممكن تطوير وسائل النقل السريعة من دونه السيارات والطائرات. وظهرت أهمية النفط الاستراتيجية بوضوح اثناء الحرب العالمية الاولى، بعدما شاركت الطائرات والمدرعات في الحرب، وزادت تلك الاهمية خلال الحرب الثانية، واصبح واضحاً ان من يستطيع السيطرة على هذا المورد الاقتصادي، يستطيع السيطرة على العالم! وتمكنت الشركات الاميركية بمساعدة الحكومات المتعاقبة من الاستحواز على اكبر الآبار النفطية في العالم، واصبحت في منتصف القرن العشرين تسيطر على الغالبية العظمى من انتاج وتكرير ونقل وتوزيع هذه السلعة الاستراتيجية في العالم. واعتمدت الحكومات الاميركية المتتالية استراتيجية شاملة وطويلة المدى تهدف الى الابقاء على اسعار النفط منخفضة، اذ ان نمو الاقتصاد وازدهاره في الدول الصناعية المتقدمة يرتكز على وجود مصادر طاقة محركة رخيصة الثمن. وكانت الشركات العالمية الكبرى التي كانت تعرف آنذاك بپ"الاخوات السبع" بسبب سيطرة سبع شركات عالمية كبرى على انتاج ونقل وتكرير وبيع النفط في العالم، تعمل دائما على تنفيذ تلك السياسة الاستراتيجية للدول الغربية وعلى رأسها الولاياتالمتحدة. وعليه فإن سياسة النفط الرخيص لم تكن سياسة وقتية، بل استراتيجية دائمة ذات مصالح اقتصادية وسياسية واضحة اعلنها الغرب وأذاعها على الملأ، وحذر الاتحاد السوفياتي السابق اثناء الحرب الباردة، مراراً وتكراراً من الاقتراب او المساس بمصالحه النفطية في الشرق الاوسط واعتبرها خطاً احمر لا يمكن للاتحاد السوفياتي تجاوزه، وأبدى استعداده لدخول الحرب من اجلها! ولكن الذي حدث لم يكن في الحسبان ولم يكن متوقعاً في اسوأ الاحتمالات الموضوعة، اذ تحول نمر الورق "أوبك" الذي ولد عام 1960 الى نمر حقيقي له مخالب وأنياب بعد حرب رمضان 1973م، واستطاعت دول اوبك" بعد صراع مرير مع الشركات العالمية استمر زهاء 13 عاماً، ان تمسك اخيرا بزمام الأمور، خصوصاً في مجال الانتاج. واستعاد النفط قيمته الحقيقية التي كان يجب ان يكون عليها في ظل ظروف العرض والطلب السائدة آنذاك، ولم تكن الصدمة الاولى عندما ارتفع سعر البرميل من ثلاثة دولارات الى 12 دولاراً سوى عملية تصحيح طبيعية كان من المفروض ان تتم تدريجاً خلال الستينات. لكن الغرب لم يرضخ للأمر الواقع، ولم يتقبل تلك الزيادة بصدر رحب، لأن الأسعار لم تكن تعكس في الحقيقة ظروف الطلب والعرض في سوق حرة تسودها المنافسة الكاملة، بل كانت تعكس وضع سوق احتكارية تسيطر عليها مجموعة من الشركات تعمل لضمان المصالح الاقتصادية لطرف واحد في تلك المعادلة، الا وهو مصلحة الدول المستهلكة ضاربة عرض الحائط بمصالح الدول المنتجة. وتعالت صيحات الغضب في الغرب مهددة باحتلال منابع النفط في الشرق الاوسط. لكن العقلاء في الدول الغربية تمكنوا من اقناع المتشددين بمخاطر العمل العسكري السافر، خصوصاً في وجود الاتحاد السوفياتي في تلك الفترة، وامكان تدخله، واحتمال حدوث مواجهة عسكرية تقود العالم الى حرب عالمية لا يعرف احد نتائجها. وقالوا ان ما يراد تحقيقه بالقوة يمكن تحقيقه بالسياسة؟ نصر بلا حرب....! وهكذا حيدت الخطط الحربية جانباً، ووضعت الخطط السياسية والاقتصادية موضع التنفيذ، وكان اولها انشاء الوكالة الدولية للطاقة، وثانيها ادخال المنطقة في صراعات سياسية وعسكرية متتابعة الحرب الأهلية في لبنان، الصراع في افغانستان، الحرب العراقية - الايرانية، غزو الكويت وحرب الخليج... إلخ. واستنفدت تلك الصراعات السياسية والعسكرية كل الاحتياطات المالية التي تكونت لدى مجموعة الدول المشاركة خلال فترة الطفرة النفطية وصرفت تلك الاموال لشراء السلاح من الغرب وشراء التأييد من الدول الاخرى! وعندما نعيد النظر الى الماضي لنستلهم منه العبر، نجد ان الولاياتالمتحدة والدول الغربية لعبت دورا لا يستهان به في انهيار الأسعار الذي حدث عام 1998، وهذا الدور هو محصلة تخطيط جيد بعيد النظر، وتنفيذ متقن ومنسق، وليس نتيجة مؤامرة كما يعتقد انصار نظرية المؤامرة، لأن الفرق بين التخطيط والمؤامرة هو ان المؤامرة تتم في السر وبتكتم شديد، اما ما حدث فهو تخطيط استراتيجي واضح ومعلن لحماية مصالح اقتصادية حقيقية وتعتبر من وجهة نظرهم شرعية. إن انخفاض سعر النفط دولاراً واحداً يحقق وفورات مقدارها 18 بليون دولار لصناعة النقل الجوي سنوياً في الولاياتالمتحدة، و13 بليونا لصناعة النقل البري الشاحنات، الى الوفر الذي يحققه المواطن الاميركي لسيارته الخاصة ما يعني زيادة في دخله الحقيقي، كما ان المصانع والشركات تحقق وفورات كبيرة في اسعار الطاقة، ما ينعكس على انخفاض الأسعار وزيادة المبيعات والأرباح، وهذا بدوره يؤدي الى انخفاض التضخم وانخفاض اسعار الفائدة وزيادة معدلات الاستثمار، وبالتالي زيادة معدل نمو الناتج القومي وزيادة الرفاهية الاقتصادية. وليس من المستغرب ان اميركا وبقية الدول الغربية تمر في مرحلة ازدهار ونمو كبيرين لم تشهدها منذ فترة طويلة، وذلك منذ تراجع اسعار النفط ما يذكر بالمثل القائل مصائب قوم عند قوم فوائد. بعد هذا العرض الملخص والسريع حول صراع "أوبك" مع "وكالة الطاقة الدولية" وقبلها مع الشركات النفطية نستطيع أن نفهم اسباب مشكلة اوبك التي تمر بها الآن، ولماذا انهارت اسعار النفط، ولماذا تبدو الصورة المستقبلية قاتمة وغير سارة؟ كان الصراع على النفط ولا يزال، المحور الرئيسي للصراع الدولي في المنطقة، ولا بد للدول المنتجة والمصدرة من ان توحد سياساتها للتغلب على هذه المشكلة المزمنة، اذ ان النفط بالنسبة لها ليس مجرد مورد عادي، بل هو قضية حياة او موت، وتترتب على استمرار انخفاض اسعاره نتائج مدمرة اقتصادية وسياسيا. ان الدول الخليجية بالذات، دول صحراوية ليست فيها موارد اخرى ذات قيمة اقتصادية، فجميع النشاطات الاقتصادية الاخرى تعتمد على ايرادات النفط بشكل او بآخر، وانهيار اسعار النفط الى مثل هذه المستويات المتدنية لا يبشر بخير. واذا لم تستطع الدول الخليجية "توحيد" وليس مجرد تنسيق سياساتها الاقتصادية والنفطية فستواجه جميعها مشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية لا يعلم مداها إلا الله، كما ان الوضع الاقتصادي والعجز المالي بلغا حداً لا يمكن السكوت عليه او مداراته بالكلام المعسول او الأماني الطيبة! وأعتقد انه لا يزال هناك متسع من الوقت لمواجهة المشكلة، ووضع الحلول العملية للخروج من هذه الأزمة، ومواجهة تحديات المستقبل التي ربما تكون اكبر وأعظم. وسيظل الصراع حول النفط مستمراً ما دامت تلك السلعة مهمة ولا يمكن الاستغناء عنها من كلا الطرفين، المنتجين والمستهلكين، ولا بد من الوصول الى حل يرضي الطرفين. ولكن كيف يمكننا ادارة ذلك الصراع لتحقيق مصالحنا كدول منتجة للنفط الذي لا يمكننا الاستغناء عنه وعن موارده المالية في حياتنا اليومية؟ هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه علينا الآن، والذي يجب ان نبحث عن اجابة له في قرارة انفسنا، واعادة النظر في واقعنا المؤلم ومستقبلنا المجهول، وليس عن طريق الاستسلام لليأس والتواكل، بل عن طريق العلم والعمل الجاد، واعادة ترتيب اوضاعنا، فليس هناك شيء مستحيل، واذا وجدت الارادة القوية توجد الحلول العملية. * استاذ الاقتصاد في جامعة الملك عبدالعزيز.