تغيّرت ظروف الحياة الاقتصادية والاجتماعية في اسبانيا بعد انضمامها الى السوق الاوروبية المشتركة، وبروز ظاهرة القنوات الفضائية، وسهولة الاطلاع على حياة الرفاه التي تعكسها الشاشات الصغيرة دفع بكثير من ابناء الشعوب التي تقطن على الضفة الجنوبية من المتوسط الى المغامرة، وعبور الحواجز بحثاً عن طريق يخرجهم من مأساة الفقر والحكومات المتسلطة، لأن العمل كخدم افضل من الحياة التي يحياها المهاجرون في بلادهم. لكن الكثيرين من الهاجرون لا يعرفون ان اسبانيا تعاني من اعلى معدل للبطالة في اوروبا وان فرص العمل فيها نادرة، وان وجدت فهي في المهن "الحقيرة". لم تعد تتشكل تلك الهجرة من مهاجري المغرب والجزائر فحسب كما كانت في البداية، بل امتدت لتشمل المواطنين الافارقة القادمين من السنغال والنيجر، وحتى نيجيريا الغنية بالبترول، واختلطت في اذهان المهاجرين احلام الثراء فسلّموا انفسهم للمافيا تنقلهم عبر مياه مضيق جبل طارق في "قوارب الموت". ونتج عن هذا مآسٍ كثيرة وموت اثناء العبور تحت جنح الظلام، حتى اصبحت الجثث الطافية على مياه المضيق من المشاهد اليومية التي يشاهدها جمهور التلفزيون. اما الذين يهربون من الموت في تلك القوارب فانهم يواجهون الحياة الصعبة في المدن الاسبانية، ما بين البطالة او العمل في تأدية الوظائف الشاقة المرفوضة، او مواجهة موجة العنصرية التي ترى في المهاجرين خطراً على المجتمع الاوروبي. تحولت هذه الاوضاع الى مجال خصب للابداع عند بعض العاملين في السينما الاسبانية الذين وجدوا في معاناة المهاجرين اليومية مادة للتعامل مع واقع مأسوي. وشهدت شاشات السينما عدداً من الافلام التي تتناول هذه الظاهرة، منها "خطاب علولو" الذي يعالج مشكلة مهاجر افريقي سنغالي، وآخرها كان فيلم "سعيد" الذي يعالج مشكلة مهاجر مغربي، وتم عرضه في مهرجان فالنسيا لسينما البحر المتوسط، وحصل على جائزة خاصة من لجنة التحكيم، وتم عرضه في عدد كبير من المدن المغربية، ولاقى هناك نجاحاً كبيراً، ويتم اعداده حالياً للعرض في قاعات السينما الاسبانية. يتناول الفيلم اوضاع شاب مغربي يدعى "سعيد"، كان يعيش على هامش الحياة في منطقة الشاون شمال المغرب يلتقي صديقه حسين العائد من مهجره في برشلونة راكباً سيارته التي اشتراها في المهجر، ويحدثه عن الحياة السهلة في اوروبا، ويهديه ساعة، ويصحبه في جولة في السيارة فيقع سعيد تحت اغراء الحياة المرفهة التي حدّثه عنها، ويقرر ان يغامر بحياته عبر مياه جبل طارق، بحثاً عن مخرج لأزمته الاقتصادية التي يعيشها في بلاده. بعد نجاحه في عبور مضيق جبل طارق في "قوارب الموت" اكتشف في برشلونة صعوبة تحقيق احلامه، لان الاعمال المتاحة امام المهاجر لا تحقق طموحاته، وليست بالاعمال الكريمة التي تليق به كإنسان، لكنه يجد عزاء عن ذلك مشاركته فرقة موسيقية كوّنها مع مجموعة من ابناء الجالية المغربية لاحياء بعض الحفلات. يلتقي سعيد طالبة صحافية آنا كانت تحاول انجاز اول تحقيق لها عن حياة المهاجرين في مدينتها، فتتعاطف الفتاة الاسبانية مع سعيد، لكنها تجد نفسها محاصرة بين حبها لهذا المهاجر، وبين رفض مجتمعها لهذه العلاقة، وتتعرض لعنف الجماعات اليمينية المتطرفة، ويصل الامر الى حدّ قتل احد المهاجرين الذين دافعوا عن العلاقة بين الاثنين. يجد سعيد نفسه محاصراً بعد حبه للفتاة التي تضحي من اجله، وبين الكشف عن قتلة صديقه الذي يعني نهاية حياته في اسبانيا، لأن تقدمه للادلاء بالشهادة يعني طرده من البلاد باعتباره لا يملك اقامة شرعية، وهذا يضع حداً للقصة الجميلة التي عاشها مع صديقته، وكانت عزاءه الوحيد في الغربة. الفيلم يكاد يكون مغربياً، على رغم انه انتاج واخراج اسباني، لأن المخرج لورينثو سولير استخدم ممثلين مغاربة منهم "نوفل" الحافي الذي لعب دور سعيد، وكانت لغة الحوار بين المهاجرين باللهجة المغربية، وساعده في ذلك مساعد المخرج المغربي محمد الحافي الذي يعتبر المحرك الرئيسي لهذا الفيلم، الذي يعتبر اول عمل جاد يتناول قضية شائكة يهرب المجتمع الاسباني من مناقشتها على رغم انها قضية يومية. يحمل الفيلم رسالة مزدوجة: الاولى موجهة الى الشعب الاسباني ليتعرف الى المأساة التي يعيشها هؤلاء بسبب ظروفهم البالغة الصعوبة في بلادهم، والموقف العنصري الذي يواجهونه في المهجر، ورسالة اخرى موجهة الى المهاجرين انفسهم، تحاول ان توقظ وعيهم وتفتح عيونهم على المخاطر المحيطة بهم. الفيلم حاول ان يكون واقعياً جداً، فقام بالتصوير في المناطق المفتوحة في مدينة برشلونة، والاجزاء التي تتناول حياة البطل في قريته المغربية تم تصويره في تلك المنطقة التي يتناولها الفيلم، لكن تلك الواقعية الشديدة التي لجأ اليها المخرج زادت من رتابة الحدث اضافة الى الحوارات الطويلة المملة التي كان يمكن الاستغناء عن معظمها. الا ان فيلم "سعيد" يعتبر لمسة طيبة من السينما الاسبانية، التي تناولت مأساة المهاجرين المغاربة الذين يموتون على أعتاب بلادهم، ومن ينجو من الموت في القوارب يموت على اعتاب المدن.