هل كان يقدر لهذا الجيل أن ينقرض لو كانت مروياته تتطابق مع مرويات الجيل السابق؟ هذا ما كان يتداول به الروائيون الشباب في مؤتمر الرواية العربية في دمشق مؤخرا..والسؤال هو على ماذا استندت كتابة الجيل الجديد من الروائيين العرب: لقد استندت روايات الجيل الجديد على الشك الدائم بما يطلق عليه بالسرديات الكبرى: سرديات الأمة، سرديات التاريخ، سرديات المنتصر، السرديات الاستعمارية.. الخ، وأخضعت كم المعرفة الذي نملكه عن المجتمع إلى النقض الدائم، عبر السخرية والتهكم الفلسفي والدعوة إلى التفكير، وقامت في بنائها على إثارة انفعال القارئ وإلغاء كافة أشكال المباعدة، ولم تعد تتعارض مع أشكال التعبير الواقعي ولا مع الخوف، أو القلق، أو الجنس، أو السياسة، وحتى الحكايات الوهمية والمختلقة فهي مليئة بالتلميحات الواقعية. لقد ابتعدت روايات الجيل الجديد في العالم العربي عن أشكال التعبير الروائي لدى الأجيال السابقة المفتتنة بالأيديولوجيات، وبالتاريخ القديم، وبالسير، وبالبطولة، والوطنية، وحرب الاستقلال، وأصبحت هذه الموضوعات نسبة للجيل الجديد مضجرة، يطغى عليها الإسفاف، والضيق والمغالطات التاريخية، وإن كان الجيل السابق مفتتنا بتهديم السرد والشخصيات ومفتتنا بالبلاغة واللغة الشعرية فقد امتلأت رواية الجيل الجديد بكم هائل من الحماقات، وقاموس الأفكار العادية، وألبوم المزح والنكات، وفارقت حتى الرواية الأحباطية التي تعبر عن شكل من أشكال اليأس، فهي رواية هدمت "المثال" بواقعيتها وبرسمها الفج لكل ما ينقص المجتمع اليوم. إن كتابها يرسمون بورتوريهات محبطة لكل أشكال الظلم الاجتماعي الجديدة من فقر وجوع. وإن كان روائيو الجيل السابق، يرسمون تطلعات المجتمع المستقبلية، فالرواية اليوم تقوم على الآنية بتوقيع الحقائق الاجتماعية، لقد استندت إلى نوع من العبثية حتى في الصورة الجنسية، فهي نوع من رواية الاحتجاج الاجتماعي ضد التكميم والقمع، في ظل سيادة استبداد الدولة واستبداد القوى المتطرفة، فلا تبحث الرواية الجديدة عن معنى خارج الواقع، أو عن معنى ما وراء المعنى، وتجنبت الشخصيات المصطنعة والحبكات المحتملة، وركزت على وصف واقعي للحياة المعاصرة، وقد اتخذت لنفسها صيغة الأوتوفكشنautofiction، أو الكتابة بضمير الأنا، واستخدام وجود الكاتب على أنه المصدر الوحيد للحقيقة، إنها رواية تجمع ما هو متعارض ما بين السيرة والرواية، ما بين سرد الوقائع والتصرفات الواقعية وبين الحكاية اليومية. إن السؤال الذي طرحه الجيل الجديد على نفسه هو ماهية وجودنا ومكاننا وثقافتنا من السرد الذي ننتجه عن أنفسنا. فالسرد الذي ننتجه عن أنفسنا ينتجنا في الوقت ذاته، بل إن التاريخ، والمكان، والهوية، والغيرية، والاستعمار، والثقافة الشعبية، والثقافة المثقفة، والأمة، والقومية، والتاريخ، وحياتنا الشخصية، وهموم يومنا، تتشكل كلها من خلال عملية سردية متواصلة تتثبت وتتكون في وعينا وتلعب دورا مركزيا في إنتاج السياق والمادة والتصورات لوجودنا. يقدم هذا السرد سلسلة من الممارسات الخطابية من خلال الزمن الذي يصبح إنسانيا ويتم الافصاح عنه من خلال العلاقات المنشبكة مع الآخرين، ولا يحقق معناه كاملا إلا من خلال خبرة سياسية وثقافية واجتماعية أيضا. إننا محاطون بطبيعة الأمر بمنظومات سردية كبرى، ابتداء من الدولة وانتهاء بالعائلة، تقوم هذه المنظومات بإنتاجنا كصور وأحداث وشخصيات بالمعنى السردي أيضا، فنحن نتعرف على السياسة من خلال سردها التاريخي، ونتعرف على الأشخاص من خلال سرد حياتهم أو سرد علاقاتنا بهم، وإن كل ما يحيط بنا هو سرد خالص، ولكن دون أن ندرك أن سرد الأحداث يتمفصل بشكل إطلاقي مع التخييل، وإن حياتنا تعمل وتتوزع وتتقطع داخل منظومة سردية تتبدى كليا داخل الحبكة، وهكذا نجد أنفسنا وما يحيط بنا ليس مادة للسرد حسب، إنما نحن تجربة معاشة ومؤسسة ضمن منظومة تخييلية هي التي تقوم بإنتاجنا من خلال المعنى الذي ينتجه السرد داخل الحبكة، ولا يتحدد هذا المعنى ولا يكتسب شرعيته إلا بعد أن يقوم السرد بتجميع التبعثر وتنسيق التناقضات الظاهرة، وإعادة تشكيل الأحداث في وحدة خطابية تتصف بالاتساق والصرامة والكلية، بل إن أية أمة تعيد إنتاج كيانها سرديا بوساطة تمثل حكائي هدفه انتاج نموذج متخيل عن نفسها، وتحاول تجميع أحداثها المبعثرة داخل خطاب مسرود ذي طابع تفسيري ومنسق بين متن اللغة والمرجعية الخارجية، وهي الأحداث المروية بطبيعة الأمر، وهكذا فإن الأمة تسرد تأريخها دون أن تلتفت إلى فترات الصمت الكبرى والزحزحات الديموغرافية والانقطاعات والتحولات الهائلة التي عصفت بها، إنما تنشغل بالطابع الاتساقي لسرديتها هي، وإن فعل السرد الذي ينتج المعنى داخل التاريخ يؤسس الحقيقة من خلال الأساطير والملاحم والوقائع والاحداث والحكايات التخييلية التي تنتجها الثقافة الشعبية أيضا.