لا اعتقد أن هناك سياسة أكثر تخبطاً، وشذوذاً، من السياسة الأميركية في التعامل مع العراق. إن الهدف، كما يبدو لي، ثابت وهو إضعاف البلد وتهميشه وتصغير دوره وتعطيل قدراته. ولكن "التكتيك" السياسي المتبع يتميز بأوجه تناقض وتعارض كثيرة، لعل مبعث أكثرها تضارب الاجتهادات الأميركية - الأميركية نفسها، وأيضاً تضارب الاجتهادات الاقليمية التي تأخذها واشنطن بالحسبان. إن أبرز ما يميز التكتيك الأميركي، خصوصاً ما يدعى ب "قانون تحرير العراق"، هو التعامل مع العراق كأنه جزء من أميركا، أو ولاية من ولاياتها، يقيمون فيها ويقعدون من يريدون وكما يشاؤون، ويختارون لحكمه من يرتأون. ولعل أهم آثار هذا القانون العتيد، الأعوج، الأعرج أنه أساء قبل أي أحد إلى أطراف المعارضة نفسها المقصودة به والمختارة ومن ثمّ إلى جميع قوى المعارضة وعناصرها وشخصياتها، واعطاء الورقة لمن يتهم الجميع بالعمالة والارتزاق والخيانة. أفهم أن تكون أميركا أصبحت طرفاً في الموضوع العراقي من جهة تحكمها في مجلس الأمن وقراراته التي تمثل وصاية أميركية بقناع دولي مهلهل. إن محاولة الاتصال أو التفاوض السياسيين مع أميركا أمر مشروع سواء من جانب الحكومة العراقية أو المعارضة ذات الدور الفعلي في الساحة. ولكن من غير المقبول أن تحدد أميركا هي البدائل والسياسات والاشخاص أو أن تتقدم بعروض سلاح وتمويل، لأن معنى ذلك ارتهان القرارات العراقية بالمشيئة الأميركية لا غير. ولبعض أطراف المعارضة الحالية سوابق مثيرة في هذا الشأن، لا سيما من جهة الأكراد ما بين 1972 و1975. ولا اعتقد بتاتاً بأن ما يهم المصالح الأميركية هو الشأن الديموقراطي أو رفاه الشعب العراقي أو مسألة حقوق الإنسان، وإنما هواها الأساسي، كما قلت، هو إضعاف العراق كبلد وشعب وقدرات ودور اقليمي. ولو كانت أميركا حريصة حقاً على مصالح العراق لكانت أول المبادرين إلى رفع الحظر الاقتصادي الذي يدمر شعبه، خصوصاً أطفاله. ولو كانت نزيهة حقاً في التعامل مع الشأن العراقي ومع المعارضة نفسها، لأعلنت أنها ستلغي كل العقوبات والتعويضات، وتلغي أو تجدول الديون إذا ما حدث تغيير ما... غير أن التصريحات الأميركية في هذا الشأن متناقضة ويضرب بعضها في بعض، وآخر ذلك القول منذ أيام إن أي نظام جديد يجب أن يحترم القرارات الدولية نفسها، أي استمرار العقوبات. وباختصار، وعلى رغم كل الاعلانات والتصريحات والمناورات الأميركية في المسألة العراقية، فإن الحصيلة الواقعية والبارزة للسياسة الأميركية هي ابقاء الحصار والعدوان المتكرر من وقت لآخر، والتلويح بالخطر العراقي المزعوم لابتزاز بعض الجيران وتصريف السلاح وتوقيع العقود والتستر على غطرسة نتانياهو. وإذا كان النفاق الأميركي وازدواجية السياسة الأميركية وعدوانيتها الأكيدة لا تبرر أبداً استمرار النهج القمعي للنظام وتخبطه في التعامل مع مجلس الأمن والدول العربية والمجتمع الدولي، فإن ما لا شك فيه أن واشنطن كانت ولا تزال تتحمل المسؤولية الأكبر والأولى عن مأساة الشعب العراقي المنكوب والصابر، والمتعرض لناري الحصار والعدوان الأميركيين من جهة، والانكماش القمعي الداخلي من الجهة الأخرى... ومن الغريب ان تتلاقى استفزازات الطرفين وكأنها موضع اتفاق...!! * كاتب عراقي مقيم في باريس.