حين احتفل العالم الغربي، هذا العام، بالذكرى الخمسين لصدور كتاب سيمون دو بوفوار الشهير "الجنس الثاني"، كان يعلن عن راهنيةٍ ما لا يزال يحظى بها الموضوع الذي تصدّت له الوجودية الفرنسية الشهيرة. ففي هذا النص النسوي الأشهر والأكثر تأسيسيةً في قرننا، قالت دو بوفوار ان "الشخص لا يولد امرأة، بل يصبح امرأة". لقد كشف "الجنس الثاني" عن "النسائية" بصفتها معطى اجتماعياً يخلقه المجتمع البطريركي مُعرّفاً النساء بأنهن "لسن رجالاً"، وبالتالي فهن اقل من بشر. إنهن يُعرّفن ثقافياً لا بوصفهن هن، بل بوصفهن "الآخر". ولا يزال المدافعون عن دو بوفوار وكتابها يقولون إنها عرفت ان تطرح الاسئلة التي ينبغي طرحها، وان ما طرحته منها في مقدمة الكتاب: كيف يمكن للمرأة احراز تحقيقها لذاتها؟ ايّ الدروب مفتوحة امامها، وايّها مسدودة؟ ما الظروف التي تحدّ من حرية المرأة وكيف السبيل الى التغلب عليها؟... أسئلةٌ لم تفقد حضورها وحيويتها. فدو بوفوار نزعت الغطاء عن خرافات كثيرة متعلقة بالمرأة كمنت جذورها في علم الاحياء وعلم النفس والفلسفة والاقتصاد والنظريات السياسية. وصار الكثير من نقاشاتها في ما خص الاسطورة والادب والتاريخ، جزءا تكوينيا من ثقافتنا المعاصرة، لا سيما وصفها الطرقَ التي بها "تُجعَل" الفتيات نساءً. لقد كتبت عن مشاكل الجنسية Sexuality وتطلّبات العمل المنزلي وغموض عمليات اعادة الانتاج بطريقة لا تزال، في عمومها، نافعةً ومفيدة. وفي تحليلها العلاقات بين الجنسين وصُورها والأشكال التي تجسّدها، خلّصت الفتاة من انتظار "فارس الاحلام"، وتحدّت فكرة الامتناع عن الجنس قبل الزواج، وهو ما سبق ان رُبط بالعار او الجريمة، كما فنّدت قيمة الأمومة وفككتها. وما يجعل بعض مناصرات دو بوفوار ومناصريها يشددون على "جِدّة" الكتاب، أنها رأت ان المرأة تعيش زمنا انتقاليا، وهذا الزمن، في رأي المناصرين، لا تزال انتقاليته ساريةً حتى اللحظة. فنسوة اليوم باشرن نزع خرافة الانوثة، مؤكداتٍ استقلاليتهن بطرق ملموسة. لكنهن، مع هذا، لم ينجحن بعد تماما في احراز العيش الكامل ككائنات انسانية. فعند مناصرات الكتاب ومناصريه ان المرأة المستقلة حديثاً، وكما وصفت دو بوفوار، لا تزال ممزقة بين "مصالحها المهنية ومشاكل حياتها الجنسية، ومن الصعب عليها ان تقيم توازناً بين الاثنين. فاذا فعلت، جاء ذلك على حساب تنازلات وتضحيات والاعيب اكروباسية، مما يتطلب منها ان تبقى في حالة من التوتر مستمرة". وأخيراً فدو بوفوار، وعلى عكس بعض من خلفها في النسوية، لم تر في المساواة هدفاً بذاته. فالنسوية، عندها، مجرد جزء من مشروع يطول العدالة الاجتماعية والحقوق الانسانية، بل الحضارة ككل. وما زاد في حرارة الاهتمام لدى بعض الدوائر الثقافية أن الأفكار التي تقدّمت بها الوجودية الفرنسية، تعرّضت لاضافات واغناءات وفّرتها نسويات اخريات صدرن عن أنساق فكرية سادت المراحل التي ظهرت اعمالهن فيها. فبيتي فريدان، النسوية الكاتبة والمناضلة الديموقراطية، كانت حذّرت، في 1963، من ان ما يهدد قضية المساواة الجنسية هو "ابهام نسائي" جديد، الا وهو الثقافة الاستهلاكية التي اجبَرت نساء الخمسينات على العودة الى البيت، على رغم التقدم الذي كان تحقق ابان الحرب العالمية الثانية وأخرجهن الى العمل على نطاق جماهيري. واذا كانت الستينات عهداً ذهبياً للتحليل اليساري الجديد، فان أواخرها قدّمت أبعاداً أخرى: فمن جهة جاءت أيار مايو 1968 لتطرح مسألة السلطة والمعرفة بالطريقة التي طُرحت بها. وهذا ما عنى تطعيم المطلبية النسوية التقليدية بجانب ثقافي ونقدي يتعدى الاقتصادي. ومن جهة أخرى كانت الثورة الطلابية الفرنسية اياها مناسبة لاكتشاف مدى غياب المرأة عن الفعل العام، بدليل ان قادة التحرك ومفكريه كانوا جميعهم من الرجال. وكتعبير عن تحولات اواخر الستينات، ظهر مانيفستو الأديبة والناقدة جيرمان غرير "المرأة المخصيّة" الذي عظّم المرأة انطلاقاً مما كان يعتبره المحافظون والتقليديون نقاط ضعفها. ومضت غرير، الراديكالية من غير ان تكون ماركسية، فخاضت مساجلة شهيرة من نورمن ميلر حين شكك بصلة النساء بالكتابة. بيد ان اضافات اواخر الثمانينات صدرت عن مواقع اخرى أوثق ارتباطاً بالتقدير الفردي والتأمل الثقافي الرفضي بلا ضفاف أحياناً. ففي وقت يعود الى 1987، بلغ الامر بالنسوية أندريا دووركن في كتابها "الجماع"، وهو نقد بالغ الراديكالية للرابطة الأبوية، ان ردّت جوهر اضطهاد النساء الى الجنس نفسه. فالجماع يحمل في ذاته "الإخلالَ بالحدود، الاستيلاءَ، الاحتلالَ، تدميرَ الحيّز الشخصي، وهي كلها أمور يُنظر اليها على أنها عادية". هذا الجسم النظري الذي بات يُعرف، على تفاوتاته وتناقضات اتجاهاته، بالأدب النسوي، بدأ مؤخراً يتعرّض لتحديات تهب من مواقع متعددة، من دون ان تكون ذكورية او مناهضة للمرأة وتحررها. وكثير من هذه التحديات بدأ يكتشف نقطة انطلاقه في مراجعة أفكار دو بوفوار التأسيسية نفسها. فقد قيل، مثلاً، إن كلمة "نسوية" لم تعد أصلاً دارجة، وان الفتيات الشابات ما عدن ينظرن الى "الجنس الثاني" بصفته كتاباً يدخلن فيه على العالم، وبه يتعاملن مع نضجهن الشخصي والعاطفي. وثمة مَن يحصر الكتاب في حقبة زمنية هي حقبة صدوره، بحيث لا تفيض تأثيراته على حقب غيرها. وثمة من أخذ عليه تجاهله العوامل جميعا، اذ جزمت دو بوفوار بان اياً من العناصر البيولوجية او البسيكولوجية او الاقتصادية لا يقرر الحال التي تتقدم بها المرأة اجتماعياً، لأن الحضارة بمجموعها ما يقرر ذلك. ذاك انه حتى الفوارق البيولوجية صار من الممكن النظر اليها بتشنّج اقل، شرط عدم المبالغة في بناء الاستنتاجات الاجتماعية والايديولوجية والقانونية عليها، ناهيك عن الرهان على قدرة العلم والتطور على تذليل الكثير منها. كذلك أُخذ على "الجنس الثاني" تعسّف وصفه الحياةَ العائلية، وقسوة وصفه الأمومةَ، فضلاً عن افراط الكتابة في لغوية فرنسية يرى الكثيرون من الانغلو ساكسون انها تقول كل شيء ولا تقول شيئاً. ولم ينج الكتاب من اتهام بالمزج بين العلم والرأي، وبين الحقائق والتخييل الرؤيوي. وأغلب النقد الدائر حالياً ينطلق، بعد ان يرتدّ على الكتاب او يراجعه، من ان الحركة النسوية حققت برنامجها، او انها في اسوأ الحالات، حققت معظمه، فما من مبرر، اذن، لهذه النبرة الراديكالية الجامعة. فعلى صعيد القانون، كما على صعيد القيم الاجتماعية السائدة، باتت المساواة اقرب الى تحصيل الحاصل. وهناك دور الصورة The Image، حيث يصعب ان نتجاهل حقيقة حضور المرأة في التلفزيون بما يفوق حضورها في اي مجال آخر. بيد ان الأمر يتعدى التلفزيون ليتناول ما بات شائعاً من صورٍ لعب الاستهلاك دوراً كبيراً في اشاعتها. وهنا يمكن الحديث عن تحقّق نسوية لا تطابق، دائماً وبالضرورة، النسوية المعادية للاستهلاك، والتي تردّ الى الرأسمالية و"استلابها" و"تشييئها" الظلمَ اللاحق بالمرأة في المجتمع الحديث. والواقع ان ما كانت الحركة النسوية تدينه في النساء لم يسقط، بل بدأ يصبح هدفاً ذكرياً الى هذا الحد او ذاك. فهناك براهين متزايدة، في بريطانيا مثلا، على توسع كبير يطول مجلات الازياء الرجالية. وبحسب مقالة لديكّا إيتكنهيد، نشرتها "الغارديان" في 6 ايلول سبتمبر الماضي، انفق الرجال هذا العام 557 مليون جنيه استرليني على المساحيق ومواد التجميل، اي ثلاثة اضعاف ما انفقوه في 1985. وارتفعت مبيعات دهون الجلد وحدها، في العام الماضي، بنسبة 25 في المئة عما سبقه. وتعاظم انتاج وتوزيع كتب ومجلات الريجيم الموجهة الى الرجل. واستيراد الرجال الصورَ التي كانت ترتبط بالنساء حصراً، يؤكد على تحول في القيم، كائناً ما كان الحكم الأخير على وجهة هذا التحول. وفي المعنى هذا لا يعود يُنظَر الى ظاهرة كالفياغرا بصفتها دليلاً على حاجة الرجل، بقدر ما تُرى كدليل على تطلّب المرأة وقدرتها الحالية على التعبير عن هذا التطلّب والجهر به. والحرية التعبيرية هذه تطرأ في مناخ يسجّل، على نحو متعاظم، تراجع فكرة السلطة، وتقدّم الفردية والحقوق المُقرّ بها لمن هم اضعف ومن هم اصغر سنا. وفي خلفية ذلك كله يصعب غض النظر عن الدور المهم الذي لعبته المنظمات الدولية في اقرار الامم - الدول تشريعاتٍ تطول ظروف المرأة دون سواها. فمنذ النصف الثاني من القرن العشرين بدأت بلدان عدة تعتوف للنساء بحق المشاركة في المؤسسات العامة بصفتهن الفردية. وحتى ذلك الحين كانت الادوار الكثيرة شبه العامة للنساء امتدادا لكونهن "امهاتٍ" فحسب. كذلك تُلحظ تحولات بارزة تطول مجالات عدة، متيحةً للبعض ان يتفاءل بمستقبل تنعدم مظاهر التفاوت الجنسي فيه، او على الاقل تضيق كثيراً. والتحولات هذه تطول تركيب الاقتصاد، والتعليم، والاعمال الموسمية القصيرة الاجل، فضلاً عن الصورة. فقد افسح الدور المتنامي للخدمات والمعلومات والتقنيات مجالاً للمرأة لم يكن معهوداً ابان سيادة النمطين الزراعي والصناعي. وهذا لا يرجع فقط الى ان النمطين الاخيرين اشد تطلباً للعضل من النمط الخدمي، بل ايضاً الى حقيقة ان المرأة تنمّ عن مهارة ارفع في مماشاة النمط الخدمي بمعناه التقني المعقّد، كما تشي باستعداد اكبر واقل عقداً من الرجل بما لا يقاس، لتعلّم المهارات الجديدة التي يطلبها عالم ما بعد الصناعة. ويشير عدد من الدراسات التي اجريت مؤخراً في بريطانياوالولاياتالمتحدة، الى ان النساء المديرات لمؤسسات حديثة، ممن زاد عددهن كثيراً في السنوات القليلة الماضية، انجح على العموم من المدراء الرجال. وقد غدت نسبة حضور الفتيات في المدارس ونسب نجاحهن، ارفع منها في حالات زملائهن الفتيان. كما ارتفع نوعياً حضور المرأة في العمل الجزئي، وهذا النمط من العمالة يناسب تقليدياً النساء المتزوجات اللواتي تتحرك علاقتهن المرنة بسوق العمل على ضوء اوضاعهن العائلية. أما التحول الآخر، فتمثّل في الازمة الاقتصادية التي ضربت بعض المجتمعات الغربية في السبعينات والثمانينات، لا سيما ركود مطالع التسعينات. فقد تراجعت العمالة الذكرية، ثم كان لنزول المرأة الكثيف الى العملين الكامل والجزئي، ان هددا الأسرة بوصفها وحدة اقتصادية تقليدية. وقد حدا هذا التحول بباتريسيا مورغان، النسوية التي سبق لها ان الّفت كتاباً بعنوان "وداعاً للعائلة"، ان تكتب في مجلة "بروسبكت" أيار/ مايو 1996 عن انهيار العالم الذكري كما عرفناه قبلاً. والأرقام، عندها، تتحدث بنفسها. صحيح ان طريق المساواة في العمل والأجور لا يزال طويلاً، الا ان عدد النساء العاملات في بريطانيا لا يقل الا 250 الفا عن عدد الرجال العاملين. كذلك قفزت نسبة مجموع النساء العاملات في الولاياتالمتحدة الاميركية من 36 في المئة اوائل السبعينات الى 57 في المئة اليوم. وفيما تعرّضت اجور الرجال، لا سيما في الطرف الأدنى من السوق، الى الركود او الانحسار، بدأت اجور النساء بالارتفاع. وبعدما كانت مداخيل النساء العاملات، في السابق، تعزز الدخل الاساسي الذي يوفّره الزوج، فانها اليوم تشكّل، هي نفسها، الدخل الأساسي ل30 في المئة من العائلات البريطانية. ومن العلامات الاخرى على تردي الهيمنة الذكرية راهناً، ان السنوات التي فاتت سجّلت تراجع الاطمئنان الرجالي الى دوام العمل في ظل سهولة التسريح، مع ما يتسبّب به ذلك من قلق مؤكد، ناهيك عن صعوبة العمل اصلاً في بيئات قليلة الاعداد لمهارات ما بعد الصناعة. وهذا ما جعل، بين اواسط السبعينات واواسط التسعينات، مباشرة تكوين عائلات جديدة او الحفاظ عليها، مهمةً صعبة. ففي اواخر الثمانينات، والارقام لمورغان، كان 34 في المئة من الذكور الاميركان البيض ممن تتراوح اعمارهم بين 20 و34، و56 في المئة من الذكور السود، عاجزين عن اعالة عائلة تعيش فوق خط الفقر، الشيء الذي ضرب الهيبة الذكرية والابوية بقدر ما افضى الى احلال روابط طوعية وعابرة محل الروابط الزوجية ذات الديمومة، فضلاً عن تسبّبه في تزايد اعداد الابناء الذين لا آباء لهم على جانبي الأطلسي. وأزمة الذكورة والرجولة هي ما حدت بالروائية البريطانية فاي وِلدن الى التأكيد على ان الرجال جميعاً غدوا ضحايا ما اسمته الأمومية الجديدة، وهي الموضوع الذي تناولته النسوية الاميركية المعروفة سوزان فالودي في كتابها الصادر حديثاً "المنقَبِض: خيانة الرجل الحديث" شاتو اند ويندوز. فقد اعتبرت فالودي ان أزمة الرجل ترتبط بتفتت العائلة وانهيار مسرح الأبوة بالتالي، وهي التي تفسّر عودةً محبطة نراها حالياً الى التباهي بالعضل والقوة، على ما تعكسه افلام سينمائية لسيلفستر ستالوني او ارنولد شوارزينغر. وفي غضون ذلك يحتل الرجال، لا سيما ابناء الآباء الستينيين وهم شبان اليوم، خانة المهزومين بامتياز. فآباؤهم ممن كانوا فرديين وليبراليين ثم استغرقهم العمل ومترتبات العيش، لم يعلّموهم "الرجولة". لقد كانوا آباء شبحيين في البيت، ضعيفي الحضور، وغير واثقين من امتلاكهم صورة عن الذكَر ينبغي توريثها للأبناء. والموضوع اياه تتناوله روزالين كوارد في كتابها "البقرات المقدسات: هل لا تزال النسوية صالحة للألفية الجديدة" هاربر كولينز، فتذهب خطوة ابعد، اذ ترى ان الفرضية الاساسية للنسوية حول علاقات السلطة بين الرجال والنساء، لم تعد تعني شيئاً. فالنسوية، في رأيها، حققت غرضها وأدركت من النجاحات اكثر مما تنبّه اليه انصارها. لكن كوارد قلقة من ان الحركة النسوية، ولأنها ليست على بيّنة من هذه الحقيقة، قد تنتهي متحالفة مع ايديولوجيات تفتيتية ومتعصّبة تهاجم الرجال البؤساء وتنسب اليهم عيوب المجتمع. ومن دون ان تتخلى عن نسويّتها، تساءلت كوارد عن جدوى النسوية اليوم، مستعيدةً بعض الحقائق التي سبقت الاشارة اليها. فأداء التلميذات في المدارس أفضل من أداء التلاميذ. وفي العمل يجري تحول نحو المهن المرنة التي تتطلب المهارات الاتصالية "النسائية" اكثر مما تتطلب القوة العضلية والفيزيائية. لقد دخلت النساء كل حقول المهن، ومرتباتهن في تزايد، والكثيرات يمكنهن الاختيار بين الذهاب الى العمل او البقاء مع الاطفال، تماما كما يستطعن المفاضلة والترجيح بين خيارات عدة. وفي غضون ذلك فالمصاعب التي تواجه الرجل عديدة، فيما البطالة والوحدة تحدقان بالشبان. بيد ان كوارد تساجل باننا، بدلا من ان ننتبه الى الخريطة الجندرية الجديدة، فقد جرى انتاج "النسوانية" Womanism وهي الطفل اللقيط والمبتذل للنسوية، والذي يمكننا العثور عليه اينما تطلّعنا: من مجلات المراهقات الى بعض المغنيات والفِرَق. وهذه الظاهرات تكرر كلها لازمةً بسيطة هي ان النساء عظيمات والرجال بالغو السوء. والنسوانية هذه تفتقر الى كل الذكاء والتعقيد اللذين انطوت عليهما النسوية، مكتفيةً بادانة "الذكرية". وهذا ما لا يكفي وصفه بقلّة الانصاف لتعيين طبيعته، اذ هو ايضاً خطير لأنه يوجه شفرته الى "الرجال الأشد قابلية للعطب"، اي الشبيبة والعاطلين عن العمل والفقراء. فهو يشعل الكراهية لهم والثأرية منهم حصراً. وعند كوارد ان أيا من الجنسين اليوم لا يملك احتكارا ثابتا للسلطة، ما يحملها على التساؤل: "الآن، ألا يكون أفيد بكثير ان ننظر الى حقوق الانسان - لا حقوق النساء، والى حقوق كل فرد من افراد المجتمع؟". وحجج كوارد هذه لا بد ان تغضب نسويات ارثوذكسيات كثيرات، لا سيما جزمها بانتصار النسوية ما دام ان بعض النساء يعشن اليوم حياة متحررة وناجحة، فيما بعض الرجال لا يعيشون كذلك. اذ ما من احد يمكنه القول إن وجود نواب ورجال اعمال ومحامين وفنانين سود في بريطانيا او الولاياتالمتحدة، معناه ان المشكلة العرقية قد حُلّت. فالمساواة في العمل وفي الأجور لا تزال هدفاً بطبيعة الحال. وثمة شوط بعيد لا يزال مطلوباً عبوره لبلوغ هذه المحطة، علماً بأن ثمة من يربطون بين هذه الوجهة ووجهة التغليب الراهن للموضوعات الاجتماعية والمجتمعية على ما هو اقتصادي بحت، لا في مجال جنسية العمالة فحسب بل ايضاً كسمة عامة للحضارة الغربية ما بعد الصناعية. فالقياس بالأزمنة السابقة، وبالتقدم الذي تحقق في القوانين والعلاقات والقيم، بما في ذلك بعض الجوانب الاقتصادية والتي تتصل بالعمالة، يعزز كله فرضيات كوارد. وهذا يعني ان أهمية النقاش في صدد النسوية، انطلاقاً من دو بوفوار، تغدو شيئاً فشيئاً اهميةً تاريخيةً، لا لأنها هُزمت بل لأنها، في الأساسيات، انتصرت. فقد دخلت، مثلاً، الى البرلمان البريطاني في 1997، 101 نائبة فبدا الأمر، على اهميته، من عاديات الحياة التي لا تستدعي قرع طبول. وطوّع الفرنسيون اللغة الرسمية لما يلائم التحولات فصاروا يقولون، مثلاً، la ministre اذا كان من يشغل المنصب الوزاري امرأة، واقتصر الاحتجاج على اعتراضات لغوية ما لبثت أن ذوت. واسمحوا لي، هنا، ان انقل بعض الأرقام التي حملتها مقالة أندرو هاكر في "نيويورك ريفيو أوف بوكس" في 21 تشرين الأول أكتوبر الجاري، وهي تدل بوضوح تام على هذا الاتجاه التدرجي في الولاياتالمتحدة: فبين 1960 و1996 ارتفعت نسبة النساء بين حاملات شهادة ال BA من 5،38 الى 1،55 في المئة، وشهادة الدكتوراه من 5،10 الى 9،40. كما ارتفعت نسبتهن بين المحامين من 5،2 الى 5،43، وبين المهندسين من 4،0 الى 1،16 في المئة. وفي الفترة نفسها ارتفع سن المرأة في لحظة الزواج من 3،20 سنة الى 25 سنة، وبينما كانت كل مئة امرأة متزوجة ينجبن 345 طفلاً، غدون ينجبن 203 اطفال. وبين 1970 و1998، ارتفعت النسبة المئوية لأجر النساء المديرات والاستاذات الجامعيات والاقتصاديات والمحللات النفسيات والصيدليات والبيطريات ومهندسات العمارة قياساً بأجر الرجال، من 4،59 الى 2،74 في المئة. وفي الفترة نفسها انخفضت نسبة المتزوجات في اعمار 30-34 سنة من 6،80 الى 4،63 في المئة، فيما ارتفعت نسبة اللواتي لم يتزوجن أبداً من 4،7 الى 6،21 في المئة. وهذه الاشارات الى انتصارات صارت مُستَدخلةً في الحياة اليومية وعلاقاتها، بعض ما يفسّر صدور آراء ارتدادية ورجعية تريد العودة بالمرأة الى ما قبل الانجازات المتحققة. ومن هذا القبيل يمكن الاشارة الى كتاب فرانسيس فوكوياما الأخير "الشرخ الكبير" بروفايل الذي يمدّ فيه الحجج التي كان طرحها، قبل عشر سنوات، في "نهاية التاريخ" الى الحيّز الحياتي والمنزلي. ففي عرفه ان الحروب الجديدة، حروب ما بعد "نهاية التاريخ"، هي ما سوف يخاض على مستوى محلي، لا سيما ذاك الصراع لاعادة بناء المجتمع المدني والعائلة من تحت ركام "الشرخ الكبير": اي التغيرات التي تُحدثها التقنية وفلسفة ادراك النفس وتبيّنها، او ثقافة الأنا The Me Culture التالية على الستينات. وفي ظنه ان ما يكمن في قلب أسباب أرقام الجريمة ذاك العجز عن جعل الشبيبة تنخرط اجتماعياً، وهو بدوره ناجم عن عدم تمكنهم من كسب خبزهم، وعدم نجاح المجتمع في تزويدهم صورة مقبولة ونمطية للأبوّة. أما جذر هذا كله فكون النساء يعملن. وأكتفي، هنا، بمجرد فقرتين من الفصل الذي يتعاطى فيه مع الموضوع، حيث يذهب فوكوياما الى النقيض الكامل لما سبق ان ذهبت اليه دو بوفوار: "فقلّة من الناس سوف تتحدى التصور القائل ان العلاقة بين أم وطفلها مؤسسة في البيولوجيا، على ما هي الحال في سائر الأنواع الحيوانية. فالأم الجديدة سوف يأتيها الحليب لمجرد سماع صرخة طفلها: انها غريزياً تجعل ذراعها اليسرى مهداً لطفلها، حيث يهدأ الطفل على صوت ضربات قلب الأم. إن مجموعة من الدراسات تُظهر كيف أن الأمهات والصغار يتواصلون عفوياً بما لا يحصى من طرق تبدو خاضعة للتحكّم الجيني لا الثقافي. فالأمهات أساسيات لرفاه اطفالهن". ولا يلبث ان يضيف الى هذه الوردية المغلّفة بحرير البراءة والحنان: "اذا كان من السهل ان يقال ان دور الأم مؤسس في البيولوجيا، فان دور الأب، والى حد ابعد بكثير، مبنيّ اجتماعياً. وسوف يتطلب الامر جهدا عظيما لكي نفصل الام عن طفلها الوليد للتوّ. وفي المقابل، فان المطلوب في العادة بذل كمية محترمة من الجهد لدفع الأب الى ان ينشغل بطفله". هذا الصراخ القديم المتجدد اصبح اليوم صراخاً في الوديان، بدليل عدم الاكتراث الواسع بكتاب فوكوياما الجديد. مع هذا صار من الصعب الكلام على حركة نسوية وسط تعقيدات لا حصر لها يستدعيها المجتمع الحديث، تطول الاقتصاد بقدر ما تطول القوانين والصور، وتتصل بالقدرة على توليد، او ادامة، ايديولوجيات متماسكة وشاملة. يضاف الى ذلك اندراج ما تبقى من اجحاف نازل بالنساء، او نازل بالسود او بغيرهم، في الموضوع المجتمعي العريض، اي في القناعات الثقافية والقيمية التي لن يتغلب عليها تغيير القانون، بل يتكفّل بها الزمن شريطة ابقاء الموضوع حياً وعدم حصول انتكاسة كبرى في الواقع وفي الوعي. ولئن تحولت نسويات كثيرات الى الدفاع عن الرجل، على ما رأينا، فقد جاء الارتباك حيال قضية مونيكا لوينسكي بليغاً في دلالته على صعوبة التوصل الى نسوية متماسكة في ايامنا: فهل الموقف النسوي يقضي بالتضامن مع المرأة ضد الرجل، ام انه يقضي بمعاداة التدخل في الحياة الخاصة والشخصية للرجال والنساء على السواء، لا سيما وان المطالبين بهذا التدخل غير معروفين باي موقف تقدمي حيال حقوق المرأة؟ يبقى ان هذا كله محاولة لرسم لوحة تطول "الغرب" واهتماماته، أما "العالم الثالث" الكثير الاهتمامات بطبيعة الحال، فموضوعه يختلف قليلاً. * كاتب ومعلّق لبناني. النص أعلاه كان قد أُعدّ للالقاء في مئوية قاسم أمين التي أقامها "المجلس الأعلى للثقافة" في القاهرة.