الكتاب: "مشرقيات - في صلات التجارة والفكر" المؤلِّف: نقولا زيادة الناشر: دار الريس ، بيروت - 1998 بأسلوبه الموسوعي الشامل والعميق، يغوص البحاثة نقولا زيادة في مفاصل تاريخ العلاقات التجارية والإنسانية والفكرية بين الشعوب والأقوام والحضارات العالمية، مع التركيز بصفة خاصة على نتائج التنقيبات والحفريات الآثارية التي جرت في أنحاء مختلفة من العالَم. ففي أولى دراسات الكتاب يصف الدكتور زيادة الظروف التي رافقت اكتشاف الألواح، المتضمّنة قصّة الخليقة، أو الأساطير البابلية والآشورية المتعلقة بتكوين الأرض والإنسان. وذلك بعد سلسلة من أعمال الحفر والتنقيب، التي جرت في بلاد الرافدين في القرن التاسع عشر. وبعد نقله "لأسطورة الخليقة البابلية" يقدم جملة من الإيضاحات والتعليقات والمقابلات والاستنتاجات. منها: أنّ قوى النور وقوى الظلمة كانت في قتال، وأن الإله "الخالق" اختلف مع "بقية الآلهة". حيث يعتقد أن الفكرة الثانية، قد تسربت من الأمم التي سكنت بلاد ما بين النهرين الى كل من خلفهم، ثم وجدت لها مرتعاً خصباً في الآداب العبرانية والمسيحية الدينية. وقد اتضح للباحثين الموضوعيّين، وهو ما يؤيده المؤلف بقوة، أن أسطورة الخليقة البابلية هي أصل قصة الخليقة العبرانية المدونة في "سِفْر التكوين". والفرق يعود الى ما مرّ على العبرانيين من أيام ودهور اختبرت فيها أشياء جديدة، وتطورت على شكل لم يتح لغيرها، وكان طبيعياً أن تظهر آثار هذا التطور في هذه القصة الدينية - على النحو الذي نراه في سفر التكوين ص 43. في الدراسة الثانية يقوم الكاتب بجولة تاريخية في أبرز مراحل ومفاصل المدنيات القديمة، استناداً الى ما عثر عليه في "تل مرديخ" في سورية من رُقُم وكتابات تعود الى أواسط الألف الثالث ق.م. إضافة الى "محفوظات ماري" تل الحريري على نهر الفرات، والتي بلغ عددها نحواً من خمسة وعشرين ألف وثيقة. حيث تتحدث هذه المحفوظات عن ثلاث مدن كبيرة كانت تقوم في شمال سورية في ذلك الوقت هي: كركميش جرابلس وحلب وقَطْنا. ويشير المؤلّف في إطار هذا البحث الى "رسائل تل العمارنة" التي عثر عليها بمصر سنة 1888، وتوضّح الصورة التاريخية للبنان وسورية وفلسطين في القرن الرابع عشر ق.م. وتل العمارنة هو الإسم الحالي للمدينة المصرية القديمة المسمّاة "أخت آتون". أمّا "الرسائل" فقد بلغ عددها نحو 350 رسالة، مكتوبة كلها بالمسمارية، وقد أرسلها الحكام والأمراء في بلاد الشام الى مصر في فترة أزمات سياسية واضطرابات اقتصادية واجتماعية. في حين أن الفترة الممتدة من القرن الرابع عشر الى القرن التالي قد أوضحتها لنا المحفوظات السياسية التي عثر عليها في أوغاريت، أي رأس شمرا اليوم، والتي بدأ الكشف عنها سنة 1928. وعلى سبيل المثال فإن المعاهدة التي انعقدت بين شبلوليوما ملك الحثيين ونقمادو ملك أوغاريت، كتبت باللسان الأكادي الذي كان لغة الديبلوماسية في الشرق الأدنى يومئذ. لكن المحفوظات الأوغاريتية الأخرى الكثيرة جداً كتبت باللغة الأوغاريتية وبالكتابة الأوغاريتية أيضاً. من ناحية أخرى عالج الدكتور زيادة المسائل المتصلة باكتشاف المدنيات الإنسانية الأولى، وفي طليعتها: السومرية والمصرية والفينيقية، ومدنيّة السند، ومدنية الخليج العربي بلاد دلمون، والتي تعود الى سنة 3000ق.م، والمدنية الصينية، ومدنية أميركا الوسطى، مع وقفة خاصة عند حضارة "المايا" والبلدان التي شهدت هذه الحضارة، ومجمل ما توصّلَ اليه الآثاريون وعلماء الاجتماع والمؤرخون بخصوص هذه الحضارة، التي لم تعمر سوى ستة قرون وبعض القرن. وفي دراسة لافتة يؤرّخ الكاتب للحركة التجارية البحرية بين حوض السند وأرض الرافدين. حيث كانت السفن تحمل من بلاد السند الى أرض الرافدين الأخشاب والقطن والعاج والعقيق الأحمر واللازورد. وكانت موانىء الخليج العربي وعُمان هي المحطات التي ترسو فيها السفن. وقد توقفت هذه التجارة حول سنة 1500ق.م. بسبب انهيار المدنيّة السنديّة. على أن عمان ماجان ظلّت مصدراً رئيساً للنحاس الذي كانت المدن السومرية بحاجة ماسة اليه. وقد كانت ثمة علاقات تجارية قديمة بين مصر وبلاد بونت بون، وهي علاقات تعود الى نحو سنة 2000ق.م وبونت كانت تشمل المناطق العربية والأفريقية الواقعة عند مخرج باب المندب. وبسبب اضطراب أمور مصر في القرن الحادي عشر ق.م. انتقلت تجارة البحر الأحمر وما يليه الى الفينيقيين الذين سيطروا على طرق باب المندب. إذ كانت السفن تُصنع، في القرن العاشر ق.م، في تل الخُلَيفة أيلة، وكان التجار ينقلون الى مصر، ثم عبر البرّ الى موانىء فينيقيا وغيرها، الذهب والفضة والطيوب والحجارة الكريمة وخشب الصندل والعاج الأفريقي والقرود والبخور والطواويس. وقد ظلّت التجارة البحرية الهندية - الأفريقية في أيدي العرب بعد انحسار النفوذ الفينيقي عن البحر الأحمر، وفي أثناء قيام الإمبراطوريات الكلدانية والبابلية والآشورية، التي كانت امبراطوريات برية، فكانت عنايتها بالطرق البرية، عبر أواسط آسيا والهند، أكبر من عنايتها بالطرق البحرية. كرَّس المؤلِّف الدراسة الخامسة للعلاقات التجارية بين الصين والعرب. وهي علاقات تعود الى القرن الميلادي السادس، الذي شهد حركة تجارية نشيطة على أيدي التجار العرب المشرفين على هذه الحركة. وكانوا يحملون البخور العربي، والمر الأفريقي، وقرون وحيد القرن، والعاج من أفريقيا، والعنبر من جزيرة سوقطرى الى الصين عبر سرنديب، ويعودون من هناك محمّلين بالحرير الصيني الشهير. وفي هذا السياق يشير الباحث زيادة الى بعض المؤلفات والمدوّنات الصينية، التي تحدثت عن هذه العلاقات التجارية. كما يُلخص أبرز ما جاء في كتب صينية ترجمها المستشرقون تصف ديار العرب، استقيت موادها من التجار. حيث أن الصينيين لم يخرجوا من ديارهم للتعرف على البلدان والشعوب الأخرى، خلافاً لما جُبل عليه العرب من حيوية وحب للمغامرة وقدرة على التكيّف والتفاهم. ويبدو ممّا قدّمه المؤلف أن الكتب والنقوش والمدوّنات الصينية، التي تتحدث عن الجزيرة العربية وموانئها ومدنها ومنتوجاتها ليست قليلة، ويمكن أن يجد المؤرخون والمهتمون فيها معطيات ذات فائدة كبيرة، ولا يعيبها أنّها مترجمة الى لغات أجنبية أوروبية، بل ان ذلك من شأنه تيسير الاطلاع عليها والإفادة من محتوياتها. في الدراسة السادسة ركّز الكاتب على المسائل الفكرية عبر التعمّق في العصر الذي عاش فيه الفارابي، والأماكن التي ارتبطت بإسمه بصورة أو بأخرى، وهي التي أطلق عليها الجغرافيون العرب ما وراء النهر وخراسان، والتي تضم اليوم جمهوريات أوزبكستان وتراكمانستان وكزاخستان والجزء الغربي من أفغانستان والجزء الشمالي الشرقي من إيران. وقد ركّز الباحث على النقاط البارزة في التجربة الحضارية التي عرفتها تلك المناطق، ذات التنوّع الاثني والديني والفكري والجغرافي والسياسي. حيث أفادت من حالات الاستقرار والتنوّع فقامت فيها المدن الكبرى، ونشطت فيها الزراعة والصناعة والتجارة، وامتزجت فيها المنجزات الحضارية لشعوب الصين والهند والفرس والجزيرة العربية وبلاد الشام واليونان ومصر، وتواصلت فيها بطرق وألوان مختلفة الحركات الفكرية المرتبطة بالبوذيّة والهندوسية والزرادشتية والمانوية والمسيحية والإسلام. وبذلك استطاعت أن تسهم اسهاماً كبيراً في المنجزات الحضارية للبشرية جمعاء. أمّا الدراسة الأخيرة فقد خصّصها المؤلِّف لتقصّي حياة ابن سينا، وأبرز المدن والبلدان التي كانت على صلة به، وهي التي تمتد من بُخارى في أواسط آسيا الى أصفهان في جنوب غرب إيران. كما أشار الى أهم ما كتبه ابن سينا وصنّفه في ميادين الفلسفة والطب والرياضيات والفلك، إضافة الى الشخصيات الفكرية والسياسية والعلمية التي اتصل بها في حياته المليئة بالعطاء والإبداع، ومختارات من أشعاره الصوفية، وحكايات من أساليبه المبتكرة في علاج مرضاه. والخلاصة أن الصلات التجارية العربية مع الشعوب الشرقية المختلفة، وقيام الدولة العربية - الإسلامية، كانت عوامل فعّالة في التواصل الحضاري والفكري بين هذه المدنيّات والحضارات، التي لعبت دوراً عظيماً في الحضارة الإنسانية، بعد اتصالها بأوروبا، واتساع نطاقها لتشمل الاتجاهات والتيارات الفلسفية، والفروع المعرفية المختلفة