لعل أسوأ موقع يمكن ان يشغله كاتب هو ان يكون ناطقاً باسم فصيل من الفصائل او تنظيم من التنظيمات، لأنه في هذه الحال سيكون مضطراً للرد على أي نقد او هجوم على فصيله، بصرف النظر عن محتوى ذلك النقد او الهجوم. ويكون الأمر أسوأ من ذلك حين يكون ذلك الفصيل هامشياً وفي طور الأفول على الصعيد الشعبي. من هنا، كنت اتوقع ان يبادر السيد علي بدوان الحواتمي بالرد على مقالتي "حواتمة - الديموقراطية وعقدة البحث عن دور" - "الحياة" 26/2، وهو ما فعله في رده المعنون "تنشيط الذاكرة ضروري في السجالات الفلسطينية اليوم" "الحياة" 5/3. بعد درس في الاخلاق وشيء من التحامل يدخل بدوان في رده منطلقاً من رفضه الفكرة التي طرحتها حول ريادة "الجبهة الديموقراطية" في ساحة التنازلات عبر طرحها لمشروع السلطة الوطنية في العام 1974. هذا المشروع يقول بدوان ان جبهته قد قدمته "كبرنامج كفاحي وطني فلسطيني تحرري في سياق استراتيجية المراحل وليس لحساب طرف دون غيره". وهنا يحق لنا ان نسأل السيد بدوان: أليس من العيب ان يكال كل هذا المديح للمشروع المذكور، على رغم بشاعة المآل الذي اوصلنا إليه، ممثلاً في اوسلو و واي والقادم أسوأ؟! وإذا ما قال لنا بدوان ان جبهته ليست مسؤولة عن كل ذلك، وهذا صحيح، فلماذا قدمت ذلك المشروع؟! ألم يعط ذريعة لتنازلات قيادة "فتح" وعلى رأسها السيد عرفات؟ والذي يدرك بدوان كما هو شأن مسؤوله حواتمه انه الحاكم بامره في منظمة التحرير ومؤسساتها كافة، وعلى رأسها المجلس الوطني الذي كان شاهد الزور على كل التنازلات التي افتتحها حواتمة بمشروع السلطة الوطنية لحساب عرفات - ابو اياد في حينه، بدليل انهما اللذان تكفلا بحمله والدفاع عنه. مشروع الديموقراطية كان يحمل هواجس عرفات - أبو إياد في السلطة والدولة، فيما كان على حواتمة وهو الاردني - القومي ان يكون اكثر انحيازاً للدور الكفاحي لمنظمة التحرير مع ترك التفاوض للدول العربية. ويقارن بدوان بين هدنة الشيخ احمد ياسين الموقتة التي اطلقت عام 1989 وما زالت هي ذاتها دون اعتراف بالاحتلال مع اصرار على دولة فلسطينية على الاراضي المحتلة عام 1967، وبين مشروع حواتمة الذي جاء في ذروة المد القومي والاسلامي المناصر للقضية الفلسطينية، وبدأت تراجعاته تظهر سنة اثر اخرى لتبين حقيقة النوايا التي انتجته. ويكرر بدوان مرة اخرى في رده مقولة "استعداد الجبهة لتسوية، ولسلام شامل على اساس المرجعية الدولية"، وكأن احداً قد سأل جبهته عما هي مستعدة له، وما اذا كان موقفها يقدم او يؤخر في اللعبة؟! ولا نريد ان نتوقف عند عبث المقارنة التي اجترحها بدوان بين ما فعله حواتمه وما مارسه صلاح الدين الأيوبي، لأنها مقارنة تثير السخرية اكثر من أي شيء آخر. وعن حكاية الاردني والفلسطيني التي اتخذناها منطلقاً لاعتبار ان من المنطقي ان لا ينحاز حواتمه لهاجس الكينونة القطرية الذي انتج التنازلات الفلسطينية، يقول بدوان ان "الدم الفلسطيني ليس أزرق، والهوية بجوهرها كفاحية"، ونسأل اين هو الكفاح الذي تقدمه جبهته، وهل تقدم سوى الكلام. اما قصة الكفاح المسلح فيحدثنا عنها بدوان كما لو كنا قادمين من المريخ، ومع ذلك فسنتجاوز احصائياته حول الفعل العسكري خارج فلسطين لأن المقاتلين لم يكونوا يفرقون كثيراً في مسألة الفصائل، وهو على أية حال فعل لم يقدم سوى مزيد من مبررات التراجع. اما الفعل العسكري في الداخل، فيقدم له بدوان امثلة تنتهي عند عام 1979 ولعمليات لم يقل احد انها لجبهته وانما هي منسوبة لپ"فتح" في معظمها، ومع ذلك فنحن لا ندري اين بضاعته بعد ذلك؟! وينصحنا بدوان بأن نعود للارشيف العسكري للثورة والمقاومة، وقد فعلنا لنكتشف ان نصيب "الجبهة الديموقراطية" لا يكاد يذكر، ومنذ العام 1987 تلاشى تماماً، في الوقت الذي قتل فيه الذين يعيرهم بدوان "حماس" و"الجهاد"، حوالي 70 في المئة من الاسرائيليين الذين قتلوا في تلك الفترة، فمنذ بداية الانتفاضة وحتى نهاية 1998، قتل حوالى 430 اسرائيلياً، كان نصيب "حماس" وحدها منهم حوالى 240. وبالطبع، يكرر بدوان هنا، وكما هو متوقع مقولات غياب الاسلاميين عن الفعل الكفاحي طوال سنوات، وهو الامر الذي طرح مراراً وتكراراً والرد عليه بسيط جداً، اذ ان الاسلاميين لم يكونوا موجودين اصلاً، قبل ان يبدأوا البناء وينطلقوا بقوة وبإرادة حقيقية للجهاد، وليس للاستعراض فقط، وها هم اليوم ومنذ عشر سنوات يدفعون الثمن شهداء وجرحى وأسرى. وليسأل بدوان نفسه عن عدد معتقلي فصيله قياساً بپ"حماس" و"الجهاد" في السجون الاسرائيلية. ثم ان الاعمال بخواتيمها، وليس من حق عجوز قبيحة ان تلوم الناس لانهم لا يخطبونها بحجة انها كانت ذات يوم فاتنة الجمال!! ختاماً، فقد تجاهل بدوان قصة الوزن السياسي لپ"الجبهة الديموقراطية" التي ركزنا عليها في المقال السابق، ربما مداراة للفضيحة، فيما كان عليه ان يقول لنا لماذا تدير الجماهير ظهرها لجبهته العظيمة اذا كانت تملك كل تلك البضاعة الابداعية على المستوى السياسي والبطولية على مستوى الفعل العسكري؟ * كاتب اردني.