يوم الخميس الماضي كتبت في هذه الزاوية عن دول تصفها الولاياتالمتحدة بأنها ROGUE، اي خارجة على القانون او مخالفة للقانون، من وحي تقرير صادر عن مؤسسة كاتو الأميركية للأبحاث. وكان الكاتبان تيموثي بيرد وإيفان ايلاندر قررا أن الدول "المتهمة" هي سورية والعراق وليبيا وإيران وكوريا الشمالية. وسألت كيف خرجت سورية وليبيا وإيران على القانون؟ وأي قانون هو؟ وأجبت عن نفسي انه القانون الاميركي، وان التهمة اساسها اسرائيل ومصالحها، فهي دولة نووية وتملك وسائل ايصال قنابلها النووية الى اهدافها، وتغطي مع اصدقائها على ذلك بالتخويف من الآخرين. كان هذا في 11 من الشهر الجاري، وكان يجب ان اعرف ان ثمة "أوركسترا" تحرك مثل هذه الأوهام لتحول الانظار عن حقيقة الخطر الاسرائيلي على كل دول المنطقة. وهكذا وفي اليوم نفسه كان معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى الذي أسسه مارتن انديك يوزع تقريراً عن ندوة موضوعها "الدفاع ضد خطر الصواريخ البعيدة المدى من الشرق الأوسط". هل يصدق عاقل ان ثمة خطراً على الولاياتالمتحدة من صواريخ ايرانية أو عراقية؟ منظمة الدفاع ضد الصواريخ البعيدة المدى وُجدت لهذا الغرض، وهي تفرعت من بادرة الدفاع الاستراتيجي التي طلع بها الرئيس رونالد ريغان سنة 1983، وأصبحت الآن مسؤولة عن إعداد ميزانية الدفاع ضد الصواريخ، كما انها تنسق بين الجيش الاميركي والبحرية والطيران لتطوير النشاطات الدفاعية ضد الصواريخ. و"الميزانية" ربما كانت مفتاح الموضوع كله، فالصواريخ المضادة للصواريخ صناعة ببلايين الدولارات لا بد ان وراءها "لوبيات" عدة تزعم وجود خطر على اميركا من دول الشرق الأوسط وكوريا الشمالية لتبرر الحصول على عقود دفاعية هائلة رغم انتهاء الحرب الباردة. وهكذا قرأنا من تقرير عن الندوة الاميركية ضد الصواريخ ان الصاروخ الايراني شهاب - 3 مثّل مشكلتين للدفاعات الاميركية: الأولى هي سرعته الكبيرة ما تعجز معه صواريخ باتريوت عن اعتراضه، والثانية ان مداه البعيد سيرغم الولاياتالمتحدة على تنظيم الدفاع عن مساحات اوسع من الأراضي. وقرأنا كذلك ان "مسرح الدفاع الصاروخي" الاميركي معنيّ بمتابعة استراتيجية "منخفضة" تهتم بالتصدي للقدرات الصاروخية المتوافرة من دول المنطقة، واستراتيجية "اعلى" هدفها الرد على الصواريخ البعيدة المدى التي تنطلق على ارتفاعات كبيرة في الفضاء. ماذا تفعل الولاياتالمتحدة في وجه هذا "الخطر الداهم"؟ تتعاون مع اسرائيل طبعاً، وهي انفقت حتى الآن 600 مليون دولار الى 700 مليون دولار على تطوير الصاروخ "أرو" مع اسرائيل، وهو صاروخ جُرّب بنجاح اخيراً، او هكذا زعم الاسرائيليون، مع ان كل تجربة سابقة له انتهت بفشل ذريع والتجربة "الناجحة" الاخيرة كانت ضد اهداف مبرمجة بما يناسب الصاروخ لتأمين نجاحه واستمرار الانفاق الاميركي على المشروع. في اليوم التالي لقراءتي تقرير معهد واشنطن، اي يوم الجمعة الماضي، كنت اقرأ خبراً في "نيويورك تايمز" عن مواصلة كوريا الشمالية برنامجها النووي سراً رغم اتفاق 1994 مع الولاياتالمتحدة، ويبدو ان اقمار التجسس الاميركية صورت مواقع مشبوهة تريد الولاياتالمتحدة الآن تفتيشها غير ان كوريا الشمالية تعارض ذلك بقوة. وبما ان كوريا الشمالية اطلقت الصيف الماضي صاروخاً بعيد المدى من فوق رأس اليابان، فإن للولايات المتحدة سبباً اضافياً للخوف من قدرات النظام الشيوعي الجائع في بيونغيانغ، وسبباً "ذاتياً" هو ان كوريا الشمالية باعت تكنولوجيا صواريخ متقدمة لايران والعراق وغيرهما. وقال وليام باري، وهو وزير دفاع اميركي سابق يشغل الآن منصب مستشار الرئيس في موضوع كوريا الشمالية، انه سيقترح "صفقة" تزيد بموجبها الولاياتالمتحدة مساعداتها لكوريا الشمالية مقابل تجميد هذه برنامجها النووي. لعل اكثر ما في الموضوع وقاحة هو الاشارة في ندوة الدفاع ضد الصواريخ ان الولاياتالمتحدة تحاول التنسيق مع دول الخليج، ومع تركيا ومصر والأردن، للتصدي لهذا الخطر. وما أفهم شخصياً من هذا "التنسيق" هو ان الولاياتالمتحدة تحاول ان تخيفنا من انفسنا، وأن تبيعنا سلاحاً لحمايتها. ببساطة، وللمرة الألف، الدول العربية وإيران وباكستان، وكل دولة مسلمة ترى خطراً واحداً وحيداً هو من اسرائيل عليها. اما الاخطار التي تراها الولاياتالمتحدة فأوهام لا تنطلي الا على السذج. وصحيح اننا ساذجون، غير اننا لسنا ساذجين الى هذه الدرجة.