لا يمكن فصل اختيار المواقع الأولى للجامعة المصرية ولا اختيار عمارة مبانيها عن معناها المدني الذي تجسّدت به، من حيث هي مؤسسة بحثية لا دين لها إلا العلم كما وصفها سعد زغلول يوم افتتاحها. ولا يمكن فصل الموقع ولا العمارة عن ارتباط الجامعة الوليدة بالعلوم الحديثة للمطربشين من الأفندية الساعين إلى تحديث الدولة واستكمال لوازمها المدنية. وأخيرا، لا يمكن الفصل بين ذلك كله والاتجاه المغاير لامتداد مصر الجديدة التي أخذت تتباعد عن مصر القديمة، سواء في خطط عمران الأحياء أو طراز معمار المباني أو أفق المعرفة المدنية الواعدة للمكان. وليس الأمر في هذه الجوانب أمر مغايرة في فضاء المكان وإنما هو أمر حراك معرفي في امتداد المكان، ومن ثم تحول من نسق معرفي إلى نسق آخر مغاير، كان لا بد له من إيجاد علامات اختلافه باختيار الموقع الجغرافي والطراز المعماري المتصل بالنسق المعرفي لعلاقات العلوم التي اختصت بكل علم منها كلية من الكليات. هذا المعنى المدني وجد علامته الأولى في المكان الذي بدأت فيه الجامعة الجديدة عملها. فقد اختارت اللجنة التنفيذية مجلس الإدارة الأول السراي التي كانت ملكاً لتاجر السجائر اليوناني جاناكليس، وأحسبه صاحب مزارع جاناكليس الشهيرة للأعناب في مصر، مقراً لإدارة الجامعة وبعض فصولها على السواء. ويقع القصر في ما يعرف حالياً باسم ميدان التحرير، بالقرب من النيل، وفي دائرة المركز من القاهرة الحديثة التي صممها خبراء التخطيط في عصر إسماعيل، وبالقرب من محطة قطار باب اللوق وفندق سميراميس ومقر الوزارة والبرلمان والمتحف المصري وغيرها من العلامات المكانية الجديدة المرتبطة بصعود الدولة المدنية، ومن ثم حراك المجموعات المناهضة لسلطة السفارة البريطانية القريبة وثكنات قصر النيل التي كانت تضم جنود الاحتلال البريطاني. وظلت سراي جاناكليس مقراً للجامعة إلى أن قامت الحرب العالمية الأولى التي اضطرت الجامعة إلى الاقتصاد في نفقاتها، وعاونها الأساتذة على ذلك بالتنازل عن ربع مرتباتهم، وتبرع الشيخ محمد المهدي وحسن كامل الشيشيني أفندي بإلقاء دروسهما بلا مقابل لعام كامل. وطلبت الجامعة من الخواجة نستور جناكليس مالك السراي أن يتنازل لها عن جزء من الإيجار السنوي وكان مقداره سبعمئة وعشرين جنيها، ولكنه رفض، فاضطرت الجامعة إلى استئجار سراي محمد صدقي باشا في شارع الفلكي لمدة سنتين، بإيجار مئتي وخمسين جنيها في السنة، وانتقلت بذلك من ميدان التحرير -حاليا - إلى ميدان الأزهار. ويبدو أن موقع سراي جاناكليس هو ما جعل الجامعة الأميركية تشتريها مع بداية عملها سنة 1920، إن لم تخن الذاكرة، وذلك في إطار الحراك الجغرافي لتنويعات المعرفة المدنية نفسها. وظلت الجامعة المصرية في سراي صدقي باشا إلى أن انتقلت منه إلى قصر الزعفران لا يزال مقرا لإدارة جامعة عين شمس إلى اليوم في ضاحية العباسية، حيث ظلت كلية الآداب وكلية العلوم إلى أن انتقلتا مع إدارة الجامعة المصرية إلى مقرها الحالي بالقرب من بولاق الدكرور في الجيزة. وتم وضع حجر الأساس لمباني الجامعة الخاصة في الأرض التي منحتها الأميرة فاطمة إسماعيل، وبتبرع مالي منها لاستكمال البناء. وأقيم حفل وضع حجر الأساس في الساعة الرابعة والنصف بعد ظهر الاثنين الحادي والثلاثين من شهر آذار مارس 1914 بحضور الخديوي عباس حلمي الثاني. وبادرت الجامعة بمخابرة مهندسين وطنيين مشهود لهم بالخبرة والبراعة، وهم صاحب السعادة صابر صبري باشا ومحمود فهمي بك وغيرهما، طالبة وضع رسم للجامعة. وبالفعل، أنجز المهندسون الرسم على طراز الجامعات الأوربية الحديثة. وكان ذلك بلا مقابل تطوعا للجامعة وحماسة لمعنى وجودها. وعرضت الجامعة الرسم على لجنة مؤلفة من مستر بويد كارتيز الذي كان مفتش أول نظارة المعارف العمومية والمستر بتس مدير البلديات بنظارة الداخلية ومسيو سيتون المهندس المعماري فوافقوا عليه. وتقرر البدء في بناء القسم الأول من الرسم، وكانت مساحته تبلغ أربعة آلاف متر، خصصت لمقر الإدارة إلى جانب قاعات محاضرات العلوم الأدبية والقانونية وغيرها من العلوم التي لا تحتاج إلى تمرينات عملية. لكن المفارقة الطريفة أن المبنى لم يكتمل بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى. وانتهى به الأمر إلى أن أصبح مقرا لوزارة الزراعة بالقرب من بناء المتحف الزراعي الذي كان في أول أمره قسما من السراي التي تبرعت بها الأميرة فاطمة إسماعيل للجامعة سنة 1913. وظلت الجامعة بلا مكان مخصوص إلى أن أصبحت حكومية في عهد الملك فؤاد الذي كان رئيس مجلسها وقت أن كان أميرا، فوضع حجر الأساس للمباني الحالية في السابع من شباط فبراير سنة 1928، لكن بعد أن وافق على طراز معماري أوروبي الطابع، يوحي بالفخامة والجلال والامتداد الفسيح الذي يشي بإمكانات المستقبل الواعد، وغير بعيد عن الطراز المعماري للمبنى الذي تحتله وزارة الزراعة الآن. وقد أقيمت مباني الجامعة على امتداد الأراضي التي تبرعت بها الأميرة فاطمة إسماعيل، في بقعة زراعية شمال قرية الجيزة القديمة الواقعة على ضفة نهر النيل في مواجهة الطرف الشمالي من جزيرة الروضة، وجاورت هذه المباني مدرستي المهندسخانة والزراعة العاليتين، فضلاً عن المدرسة السعيدية التابعة لنظارة المعارف العمومية. واختير الموقع لبعده عن ضجيج وسط المدينة من ناحية، واتساع المساحة التي تقبل التوسع من ناحية ثانية، وربما لإبعاد الطلاب الذين قد يندفعون إلى المظاهرات عن قصر عابدين من ناحية أخيرة. ويعزز من ورود هذا الاحتمال الأخير في الأذهان ما قامت به سلطة الاحتلال البريطاني، عندما أجبرت مدرسة الحقوق على الانتقال إلى الجيزة بهدف إبعاد المتظاهرين عن الدائرة الجغرافية التي يقع فيها مقر المعتمد البريطاني وقصر عابدين القريب على السواء. وكان الهدف المعلن آنذاك، نقل الدراسة والطلاب إلى وسط هادئ، يعزلهم عن المشاغل التي تبعدهم عن دراستهم. ويلاحظ دونالد مالكوم ريد - في كتابه عن جامعة القاهرة ودورها في بناء مصر الحديثة - أن تصميم الحرم الجامعي يعكس تقاليد الفنون الجميلة الباريسية في محاورها القوية من حيث التشكيل والتماثل، وفي الطريق الواسعة المؤدية إلى المدخل. وكان مهندس معماري أوروبي هو الذي وضع تصميمات المباني التي تولت تنفيذها مصلحة المباني العمومية، حيث يفضي الطريق الواسع المؤدي للمدخل إلى بوابة رئيسية، ثم إلى حديقة دائرية تحيط بها أشجار النخيل الملكي. وتطل الواجهة اليونانية الضخمة لمبنى الإدارة على الساحة المربعة للمدخل وحديقته الدائرية التي يحيط بها مبنى كلية الحقوق من الجنوب، ومبنى كلية الآداب من الشمال، وذلك في دلالة على موقع الحقوق والآداب في سلم التراتب المعرفي لأذهان مؤسسي الجامعة الذين كان أغلبهم من خريجي مدرسة الحقوق الخديوية ومن المشتغلين بالآداب بأكثر من معنى. وجاء طراز الجامعة الكلاسيكي المحدث مغايرا للطرز الإسلامية القديمة، ومتميزا بملامحه المضفورة بعناصر الباروك، غير البعيدة عن التأثر بالطرز الفرعونية، تعبيرا عن الفخامة والضخامة ورغبة الامتداد في فراغ المكان الذي انتصبت فيه، قرب القبة الجامعية، برج لساعة الجامعة التي تعلن عن الوقت، وذلك في دلالة على تولد وعي مختلف بالزمن. أقصد إلى ذلك الوعي الذي انطوى عليه محمود مختار عندما أبدع تمثاله "نهضة مصر" الذي انتهى به المطاف ليقع في مدخل الطريق الواسع إلى الجامعة. ولا يمكن فصل الحرص على القيم الجمالية التي ينطقها ويؤكدها التناغم المعماري الذي يبدأ من المدخل وينتهي إلى الحرم المحاط بالتشكيلات الفنية للأبنية - لا يمكن فصل ذلك كله عن صورة الجامعة في مخيلة الذين حلموا بوجودها، وعملوا على نقل الحلم من عالم الخيال إلى عالم الواقع. ولم يكن من المصادفة - والأمر كذلك - أن يقوم الأمير أحمد فؤاد برحلة طويلة في أواخر سنة 1908، يزور فيها جامعات روما وتورينو وباريس وبرلين، كي يتناقش ومديريها وأساتذتها في شؤون جامعة مصر الناشئة، ويتأمل في الوقت نفسه طرز المعمار التي تتناغم وطلب العلم الجامعي وتضيف إليه متعة التذوق الجمالي. ولم يكن من قبيل المصادفة، كذلك، أن تعلن لجنة الجامعة إلى الناس عن إيمانها بأن العلم يسير مع الفن جنبا لجنب، وتقرر نتيجة ذلك استحضار أحد الأساتذة البارعين في هذا المجال من إيطاليا التي هي معدن الفنون فيما أعلنت اللجنة. وكان هدف اللجنة من ذلك هو أن يقف المصريون على أساليب الأمم في الفنون الجميلة، ويتعلموا درس التقدم من إيطاليا التي هي شبيهة بمصر من حيث مالها من تاريخ مجيد، فقد كانت إيطاليا مصباحا للمعارف في سالف الزمان ثم أخنت عليها الأيام، فسقطت إلى الحضيض، ولكنها أفاقت من غفوتها، وأخذت بأسباب النهضة العلمية والفنية معا حتى ارتقت إلى مكانة يغبطها عليها كثير من الأمم. وسواء تحدثنا عن جماليات المقر القديم الأول للجامعة المصرية في سراي جاناكليس أو مقرها الأخير، الحالي، فإن علامات الموقع تنطق دلالة مدنية محدثة بأكثر من مدلول، سواء من حيث البعد عن القاهرة القديمة التي تتحلق حول الأزهر وسط شوارع قاهرة القرون الوسطى وأزقتها الضيقة العشوائية بعمارتها التي تجمع ما بين الطرز الشرقية الفاطمية والأيوبية والمملوكية والعثمانية، أو من حيث البعد عن مركز الحركة الجغرافية للمشايخ الذين لم يريدوا مفارقة المركز التعليمي القديم إلى مراكز تثقيفية جديدة، أعني مراكز تصل الشرق بالغرب في دلالة واعدة من دلالات الانفتاح والحوار، وتصل الماضي بالمستقبل في حركة الحاضر الذي يتطلع إلى النهضة والتقدم. ولذلك كانت سيمياء علامة الموقع الوجه الآخر من علامة معمار الجامعة الجديدة، خصوصاً من حيث تضافر الدلالة على مؤسسات واعدة للدولة المدنية والميل إلى الطراز المعماري الغربي الذي بدا نموذجا مغريا منذ عهد إسماعيل، وعلامة معرفية مغوية على نموذج التقدم الذي داعب خيالات الحالمين بدولة مدنية لا تقل تقدما عن دول الغرب الأوروبي. ومن الطريف أن نلاحظ أن حسين رشدي باشا، وكان قد أصبح رئيس مجلس إدارة الجامعة بعد الأمير فؤاد، ألقى خطبة في احتفال وضع الحجر الأساس سنة 1914، وانتبه في هذه الخطبة إلى دلالة المكان، فقال: "بالجانب الشرقي من القاهرة، قام الجامع الأزهر منذ ألف عام على وجه التقريب، فكانت منارته الشامخة ترسل الضياء إلى جميع الأرجاء لتخليد علوم العرب وحضارة الإسلام، وها هي الجامعة الحديثة، ستقوم في هذا الزمان على الجانب الغربي من المدينة لنشر الآداب العربية مرتبطة بالمعارف الغربية. وهذان الصنوان سيتعاونان، منذ الآن، على إرسال الأنوار على ضفتي النيل السعيد، من اليمين ومن اليسار، بما يعود على أهل الوادي بتمام النفع وكمال الفخار". وسواء كان حسين رشدي قصد بهذه الكلمات تأليف قلوب وعقول ممثلي السلطة الدينية الذين كانوا يحضرون الاحتفال، أو قصد بها إقامة علاقة مجاورة لا تخلو من مسالمة بين التعليم الديني والتعليم المدني تخفيفاً لحدة إمكانات التناقض بين طرفي الثنائية، فإن كلماته تؤكد - ولو على نحو غير مباشر - التلازم الوثيق بين المغايرة المكانية والمغايرة المعرفية في الحراك الجغرافي للجامعة الوليدة. ولذلك لم تفت دلالة المكان الجديد على دولة الأمير أحمد فؤاد الذي صرح بأن الدار الجديدة ستكون خير دار تليق بالجامعة من حيث السعة والترتيب وجودة الهواء وبعدها عن الضجيج والضوضاء، فالجامعات الحديثة - في ما يقول - يراعي في وضعها قانون الصحة والجمال. وما يعنيه ذلك كله هو أن مدى الحركة الجغرافية لمباني الجامعة الوليدة، ما بين مقرها الأول في سراي جاناكليس ومقرها الثاني في سراي الزعفران ومقرها الثالث الأخير في الجيزة، إنما يدل على مدى الحراك الاجتماعي والمعرفي للفئات الجديدة، خصوصا من المطربشين الذين وجدوا في علم الجامعة ودرجاتها ما يرتفع بهم طبقيا في بناء التراتب الاجتماعي، ويتيح لهم التدرج الأفقي الصاعد على سلم وظائف الدولة إلى ما يرتقي بهم من رتبة الأفندي إلى غيرها من الرتب الأعلى، جنبا إلى جنب الحراك المعرفي الذي ينتقلون به من الدائرة المهنية أو الحرفية الضيقة إلى الدائرة المعرفية الأعلى والأكثر اتساعا وشمولا في آن. وذلك هو الحراك الذي جذب إلى سياقاته المتطلعين من طلاب الأزهر إلى المغايرة الاجتماعية والمعرفية على السواء، والراغبين في مجاوزة الأزقة القديمة حول الأزهر والأروقة العتيقة حول أعمدته إلى الشوارع الواسعة والعمارات المرتفعة في امتداد الفضاء الجغرافي الجديد الواعد بالكثير. ولذلك تسجل قوائم الامتحانات الأولى للجامعة، منذ إنشائها، تصاعد أعداد المعممين الذين ارتفعت نسبتهم إلى أن وصلت الذروة سنة 1918، ومن غير أن تنقطع إلى منتصف العشرينات، حين شهدت كلية دار العلوم ثورة طلابها على زي المشايخ الذي استبدلوا به زي الأفندية، وذلك قبل عام على وجه التقريب من صدور كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين الذي كان رأس حربة الموجة الأولى من الذين هجروا التعليم الديني للأزهر في قلب القاهرة القديمة إلى الجامعة المدنية الواعدة بالقرب من مراكز القاهرة المحدثة لمصر الجديدة الناهضة بأفنديتها.