قلما نظر النقد الأدبي أو خلافه الى مسائل متصلة ب"تكوين" النص عموماً، خصوصاً وأن انتقالة الكتابة من عهد الوراقة الى عهد الطباعة قلبت، لا تصنيع الكتاب وحسب، بل تصوره التأليفي كذلك، رأساً على عقب. إذ أن كيفية صدور الكتاب في هيئة طباعية للقارىء باتت تتحكم أيضاً بمادة الكتاب، بمضمونه، بطبيعة إبلاغه، في مساع وطرق سابقة على صوغ الكتاب ولاحقة عليه كذلك. هذا ما تسعى الى دراسته، في جملة ما تسعى اليه، التناولات "التكوينية" للنص، من دون أن تعرف نجاحات ملحوظة في دراساتنا النقدية والمنهجية. فالكاتب العربي ما عاد كاتباً أعمى، إذا جاز القول، بل بات كاتباً مبصراً، ويتبصر في ما يمكن أن يكون عليه ظاهر تأليفه، أو هيئته الطباعية التي يظهر بها على القراء. فإخراج الكتاب الى النور هو أشبه بعرض مسرحي، إذا جاز القول، يحتاج الى عدة ظهور ومثول، بما فيها من مؤثرات و"أكسسوارات" وغيرها، مما يحتاج اليه النص في ظهوره العلني في صيغة تداولية. فهذا شاعر يوزع أبيات قصيدته، قبل توجيه المسودة الى المطبعة، توزيعاً مبتكراً، فلا يدعه لاستنسابية الطابع نفسه، ويطلب منه "مشهدية تشكيلية" للأسطر، تفيد هي بدورها وتعزز، على طريقتها، إبلاغات القصيدة ومقاصدها. هذا ما يفعله الروائي نفسه، بل كاتب البحث في العلوم الانسانية، وإن في صورة أقل، إذ يرتأي أو يخطط، ولو بلمسات قليلة، لتوزيع معين للفقرات والمقاطع والفصول. إلا أن لأوجه التشكيل البصري للنصوص أدواراً أخرى، مثل تعيين المفاصل والتوقفات المتباينة داخل النص الواحد، وهو ما يندرج في علامات الترقيم أو أدوات التنقيط في الهيئة الطباعية، وهو ما تناولته مجلة "عالم الفكر" الكويتية، في عدد أخير لها، في دراسة بعنوان "مقاربة تاريخية لعلامات الترقيم"، وضعها عبد الستار بن محمد العوني. تقوم الدراسة في صفحات عديدة ومطولة بتناول علامات الترقيم تناولاً تاريخياً لدى الاغريق، أو في كنف الامبراطورية البيزنطية، أو في العالم اللاتيني، وذلك حتى نهاية العصر الوسيط. ثم تنصرف الدراسة الى معالجة الترقيم بالعربية في عهد المخطوط، فيستجمع الدارس معلومات متفرقة، من دراسة هذا المستشرق أو ذاك، وتفيد رسم هيئة الترقيم في المخطوط، كالتوصل الى معرفة استعمال النقطة علامة للترقيم للفصل بين الجمل في المصنفات الإسلامية، وقبلها استعمال الدائرة للغرض نفسه بعد أن استعاروها من تقاليد المخطوطات البهلوية، على الأرجح: ففي مصاحف القرون الهجرية الأولى نجد الدائرة مستعملة في أواخر الآيات، ونجدها مستعملة في عدد من المصنفات في القرنين الثالث والرابع الهجري للفصل بين الجمل المتحاذية. كما ترد الدائرة في هيئات نسخية مختلفة: مجردة تارة، أو يقطعها خط مائل أو لها شكل دائرتين متداخلتين. ولم يكن غريباً طبعاً أن نتحقق في القرآن، في المصاحف الأولى، من أشكال الترقيم الأولى في العربية، إذ أنه الكتاب "الأول" بمعنى ما، بعد أن تطلب خروجه الى الناس، في هيئة واحدة، عناية به وضبطاً ترقيمياً له: فلقد احتاج المسلمون، بعد نزول الوحي، وبعد انتقال سوره وآياته الى مسلمين عديدين ما عايشوا النزول نفسه وما حفظوا بعض مواده مباشرة، الى دراسة الوقف كشرط لازم لتلاوة الكتاب قراءة سليمة، إذ "كانوا يتعلمون الوقوف كما يتعلمون االقرآن"، كما يقول الأشموني. فالتوقف السليم في الآيات هو الضامن في غالب الأحيان لسلامة المعنى، والايمان بالتالي. وهو ما نتحقق منه في انصراف عدد كبير من المصنفين الى وضع كتب في الوقف والابتداء وغيرها. بل تطلب خروج القرآن في هيئة مثبتة لمجموع المؤمنين ابتكار أعداد من العلامات المخصوصة، ذات الأدوار المحددة، مثل اعتماد الحروف لأغراض ترقيمية، واستعمال النقط الصفراء والحمراء وغيرها. وهو ما جرى في تدوين "الأحاديث" كذلك، إذ ابتكر علماء الحديث ومصنفوه علامة "الضبة" لفصل كلام الرسول عما يحاذيه يميناً وشمالاً. الترقيم الحديث داخل الجملة هكذا نتبين أن الترقيم دخل الى العربية مع تثبيت الكلام المنزل في كتاب ذي دفتين، ما أدى الى علامات مختلفة للتمييز بين الجمل، بعد أن كانت موصولة في العهد الجاهلي، كما نتحقق من ذلك في غير شاهد قديم. فمتى عرفنا الترقيم داخل الجمل؟ لا يستعمل الباحث مثل هذا التمييز بين العهد القديم والعهد الجديد، بل نحن الذين نقترحه، بعد أن راعنا أمر التباين بين هذين العهدين على أنه تباين واقع بين الجمل أو في الجملة الواحدة. فنحن لو وقعنا على بعض كتب أحمد فارس الشدياق، على سبيل المثال، المطبوعة في القسطنطينية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، في مطبعته "الجوائب"، للاحظنا عدم وجود علامات الترقيم داخل الجمل أبداً. الإشارات الطباعية ولو راجعنا بعض الكتب المطبوعة في بيروت، في الحقبة عينها، مثل المجموعات الشعرية لخليل الخوري لوجدنا أنه يستعمل الإشارت الطباعية التي كانت تستعمل في طباعة "الكتاب المقدس"، والشبيهة بأدوات فصل الآيات في القرآن، للفصل بين الجمل. هذا ما نتأكد منه لو راجعنا كتابين لأحمد زكي باشا، الأول الموضوع في العام 1893، "السفر الى المؤتمر"، والثاني في العام 1901، "الدنيا في باريس"، إذ أن الثاني منهما يشتمل على علامات ترقيم، ربما لأول مرة في العربية، وهو ما يحتاج في حسابه الى تفسير في صفحة الكتاب الأولى: "رأينا تقدم العصر، في الكتابة والفكر، يوجب إتحاف أبناء العربية، بالإشارات المستعملة في أغلب اللغات الأوروباوية، لإرشاد القارىء على مواقع القليل والمستطيل ومواضع التعجب والحيرة ونحو ذلك. لا جرم أن هذه الإرشادات خير مرشد له في حسن التلاوة، وعدم خلط الجمل مع بعضها، كما هو حاصل في أغلب المطبوعات العربية، بحيث يضطر الإنسان كثيراً لمراجعة نفسه، وإعادة القراءة لمعرفة أول الجملة من آخرها". ثم يعرض أحمد زكي لهذه "الإشارات"، ويقترح تسميات لها، هي المستعملة حتى أيامنا هذه، مثل: النقطة، علامة الاستفهام، علامة التعجب وغيرها. وما لبث أن اقترح زكي، ضمن مشروعه في إحياء العربية، مشروعاً بعنوان: "الترقيم وعلاماته في اللغة العربية" 1912، وكانت له فيه عودة بينة الى العلامات في العربية القديمة، طبقاً لما قام به عدد من "النهضويين"، وهو "بناء الحاضر على الماضي". باحث اخر، بعد زكي، عاود النظر في الترقيم في العربية، عبدالرؤوف البصري، وهو تلميذ زكي، إلا أنه نظر الى العلامات هذه، بخلاف أستاذه، من ناحية صلاتها بالإيقاع. ووجد البصري ضرورة لتبويب العلامات في فئات، فجعلها ثلاث: العلامات الوقفية الشولة، الشولة المنقوطة، النقطة، والعلامات النبرية علامة التوضيح، علامة الحذف، علامة الاستفهام، علامة الانفعال والعلامات الصامتة علامة التنصيص، علامة الحصر أو القوسان، علامة البدل أو الشرطة، علامة المتابعة، علامة المماثلة. ولقد زخد البصري هذا التصنيف عن الإلمانية، على الرغم من انتقاد عدد من العلماء لهذا التصنيف، إذ أن العلامات الوقفية نبرية هي كذلك. وما لبثت وزارة المعارف في مصر أن أقرت في العام 1932 إدراج كتاب "الترقيم والايقاع" لعبدالرؤوف البصري على تلامذة المدارس. ثم بادر مجمع اللغة العربية في القاهرة الى إعداد مشروع للترقيم استوحاه من التجربة المصرية هذه، وأقر العلامات على الصورة التالية: الفصلة والفصلة المنقوطة، الوقفة والاستفهام والتأثر، والنقطتان الفوقيتان والنقط الثلاث المتجاورة علامة على الحذف، والشرطة أو الوصلة وعلامة التنصيص والقوسان. الأساس الإغريقي واللاتيني؟ ولعلنا نجد في مسلسل الخطوات هذه مؤشرات دخول هذه العلامات، ذات الأساس الاغريقي واللاتيني، الى العربية، وهو ما نراه شائعاً في كتابات اليوم. ولعلنا نجد في هذا الدخول المتأخر عينات عما نلقاه من أخطاء رائجة، سواء في الصحف أو في الكتب العربية، في استعمال علامات الترقيم: هكذا نجد توفيق الحكيم يكثر من استعمال علامة الحذف، ونزار قباني من النقطتين المتواليتين... غير أن هذا الكلام عن تاريخ علامات الترقيم في العربية لا يعفينا عن السؤال التالي: هناك شكل ترقيمي للقرآن، أي "الوقف"، لا لغيره من المدونات الكتابية العربية التي لم تعرف ترقيماً لها قبل المقترحات "النهضوية" في مصر انطلاقاً من التجارب الأوروبية. إلا أن السؤال البدهي في هذا السياق هو التالي: ما كانت هناك أدوات ترقيم في العربية، ولكن أيعني هذا أن الكتابة، أي تركيب الجمل واقعاً والعلاقات بينها، ما كانت تحتمل أي نوع من الأدوات الترقيمية المفترضة، أو أي العلامات كانت تتطلب؟ ذلك أن مراجعة بعض الكتب التراثية المحققة يرينا دور المحققين الذين عملوا على وضع العلامات حيث يستوجبها البناء، وإذا بنصوص مثل التوحيدي تبدو حافلة بها.