كثر هذه الأيام ورود مصطلحات "الشارع العربي" و"الجماهير" و"الرأي العام" في مقالات كُتاب، يلقون بها في ثقة في وجوه القراء وكأنها معالم شهيرة على وجه الأرض نعرف جميعاً مادتها الخام ومواقعها وأبعادها وطولها وعرضها وكيفية الوصول اليها. قد تكون كذلك ولكن ليس بالنسبة اليّ، فحتى الآن انا عاجز عن الإلمام بتلك المقولات فضلاً عن الإمساك بها. قد يتطرق الى ذهنك أنني أعيش في برج بعيداً عن الشارع، والواقع انني عشتُ حياتي لا أترك "الشارع" إلا في ساعات النوم فقط لأسباب خارجة عن إرادتي، أي أن لحظات اليقظة عندي تعني ببساطة "الشارع"، ومع ذلك فأنا عاجز عن ماذا يقصدون بالشارع العربي! ولماذا لا نقرأ لكُتاب يتكلمون عن الشارع الانكليزي، أو الشارع الهولندي، أو الشارع الدنماركي. هل تخلو مدن هؤلاء من الشوارع؟. ومن نقصد بالجماهير؟ سكان المدن؟ سكان القرى؟ سكان الصحف؟ سكان الاحزاب وقاطني النقابات والجمعيات الأدبية الثورية؟ وماذا تريد هذه الجماهير؟ وما الذي تتوق إليه؟ هل تريد الحرية؟ الاستبداد؟ الطعام؟ العمل؟ النظام؟ الفوضى؟ وهل لحركة الجماهير مواسم معينة مثل الفيضان وهجرة الطيور مثلاً؟ وهل تتحرك بدافع من النشوة أم من فرط الألم؟ هل هي تتحرك بدافع ذاتي داخلي أم بدافع خارجي؟ ولماذا تتحرك هذه الجماهير ألماً من أجل الاطفال الجائعين في بلد عربي وتسكن حركتها في حال ذبح الاطفال في بلد عربي آخر؟ وهل هذه الجماهير هي نفسها الغوغاء التي طالما ذكرت في الأدبيات القديمة، أم أنها مختلفة عنها؟ وما وجه التشابه بينها وما أوجه الاختلاف؟ وما هو بالضبط هذا "الرأي العام"؟ هل يمكن للرأي ان يكون عاماً؟ هل هو رأي يستند الى المعلومات والاحصاءات، أم يستند الى الحدس الجمعي أم يصدر عن الانفعالات من يأس وألم وغضب؟ وما دور الرأي الخاص في تشكيل الرأي العام؟ هل هناك احتمال ان الرأي العام ليس إلا رأياً خاصاً تم رشه في ذكاء وخبث على عقول البشر فتخمر وأصبح عاماً وضاغطاً ومؤثراً حتى على الرأي الخاص الذي كانه؟، أذكر أنه في أيام الاحتلال الانكليزي لمصر وفي أيام "احتلالات" أخرى، كان يوجد في وزارة الداخلية قسمان متجاوران، الاول "لتوجيه" الرأي العام، والثاني "لقياس" هذا الرأي العام، الأول يرسل رجاله الى المقاهي وأماكن التجمعات البشرية ينشرون الآراء التي تريد الحكومة جعلها عامة، ثم يبدأ القسم الثاني في قياس هذه الآراء بعد أن أصحبت عامة ليرفع بعد ذلك تقاريره الى الحكومة لتكون ركيزة لها وسنداً في صنع القرار السياسي. وعندما تقرأ الحكومة هذه التقارير، وهي سرية بطبيعتها، تشعر بالارتياح والغبطة بعد أن تكتشف أن رأيها متطابق تماماً مع الرأي العام في الشارع. أخشى أن تفهم من كلامي أن الرأي العام في بلادنا ليس أكثر من إدارة حكومية هائلة الحجم يعمل فيها آلاف الأفلام والميكروفونات والكاميرات، وحش هائل الحجم يتغذى يومياً بمئات الأطنان من الورق والأحبار ويتنفس موجات وهواء الأثير، ماكينة ضخمة تعمل ليل نهار على بث رأي الحكومة لتحويله الى عام. قد تستند في فهمك هذا الى أننا مولعون بكل ما هو عام وعامة وعموم: الهيئة العامة لكذا، الإدارة العامة، المؤسسة العامة، الشؤون العامة، المشرف العام، المفتش العام، المدير العام، كل ما هو "عام" هو ملك للحكومة، فكيف تستثني الرأي العام من ذلك؟ هذه مسألة غريزية بحتة لا صلة لها بالسياسة ونظم الحكومة. قد يكون فهمك خاطئاً وقد يكون صحيحاً، ومع ذلك، صدقني، ليس لديّ قول فصل في هذه الأمور، أنا مجرد كاتب ينقصه اليقين، وبي رغبة أكيدة في البحث عما تعنيه هذه المصطلحات، ولكي لا نزعج رجال السياسة الذين يغضبهم أن يتحدث أولاد الشوارع عما يحدث في الشارع، فإننا لن نتحرك على أرضهم بل سنحصر بحثنا في ذلك المثلث الضيق المحصور بين عالمهم السخيف وعالم الفن الممتع وعلم النفس الجمعي المدهش. أزعم أن أقدم وثيقة في التاريخ تشير الى "قياس الرأي العام" كانت تلك البردية الشهيرة التي اصطلح على تسميتها ب "شكاوى الفلاح الفصيح"، وإن كنتُ أفضل كلمة "عرضحالات 2500 ق.م". تقول البردية: حدث أن أحد الفلاحين من وادي النطرون حمّل ستة حمير بكل ما لذّ وطاب من ثمار ومنتوجات الواحة التي يسكنها وقادها الى منف ليبيع فيها بضاعته، لكن واحداً من المسؤولين عن مزارع حاكم الاقليم طمع في بضاعة الرجل فاستولى عليها بما فيها الحمير، وحجته في ذلك أن حماراً قليل الحياء عديم الانضباط قضم أوراقاً خضراء من حقله، وعقاباً له، بوصفه مسؤولاً عن سلوك حماره كان لا بد من مصادرة كل أملاكه. وقف الفلاح أمام المسؤول اللص بثبات محتجاً ومطالباً بحقه، ثم تعالت صيحاته ففقد المسؤول اللص أعصابه فضربه وهو يصيح فيه مستنكراً: إخرس، ألا تعلم أنك هنا في وادي السكوت المقدس؟! وهنا يرد عليه الفلاح المسروق في سخرية: "حسناً يا سيدي، إعطني حميري وخذ سكوتك، هل تسرق مني حميري وبضاعتي وتريد أن تسرق مني صوتي أيضاً؟". لا فائدة. الرجل مصمم على سرقته. وهنا يقول له الفلاح بثقة وهدوء: "حسناً، أنا أعرف صاحب هذه المزارع، إنه حاكم الاقليم، وأعرف أنه عادل وعظيم، لقد طهّر هذه الناحية من اللصوص وقطاع الطرق، وأنا واثق أنه لن يرضى بأن أسرق في ذمامه". في ما بعد، ولآلاف السنين سيتخذ المسرح المصري المسار نفسه، الحاكم عادل، ولكن حوله مجموعة من اللصوص غلاظ القلوب، وهو بالتأكيد يجهل أنهم كذلك. وذهب الفلاح الى حاكم الاقليم ويبدأ في "عرضحاله" الأول. بدأ في عرض قضيته في بلاغة وجمال وحرارة وأيضاً في إطار قوي من النفاق: "أنت بين الأغنياء أغناهم، وأنت الزوج لكل أرملة، والأب لكل يتيم، أيها الممدوح من كل هؤلاء الذين يمدحهم الممدوحون"، بعد أن أنتهى الفلاح من عرضحاله الأول ذهب الحاكم من فوره الى الملك "مولاي، واحد من المسؤولين عندي سرق فلاحاً كذا.. ولكنه فلاح فصيح ومثقف لدرجة تدعو الى الاعجاب". فيرد عليه الملك: "إذا كنت تريد ارضائي، لا تقم بحل مشكلته، دعه يتكلم، دعه يفصح عما في نفسه، وكلف شخصاً بكتابة كل حرف يقوله وارفعه لي يومياً، وارسل إليه بطعامه يومياً مع واحد من اصدقائه المقربين". بعد ذلك أرسل الملك رسالة سرية هذا ما تقوله البردية الى حاكم وادي النطرون يطلب منه إمداد اسرة الرجل بما تحتاجه من طعام من غير أن تعرف مصدره. لا شك ان الملك بخبرته الطويلة عانى من غموض تقارير معاونيه وأجهزته وتضاربها، ولا شك أنه رأى في حكاية هذا الفلاح فرصة مهمة للتعرف على ما يحدث في بلده. لا أحد بارعاً في الإفصاح عن الألم العام سوى المبدع ذي الألم الخاص. هو لا يريد الاستمتاع بفصاحة وبلاغة الفلاح وإلا لكان اعطاه منحة تفرغ يكتب فيها رواية مليئة بالحكم والعبر، لكنه يريد أن يتعرف على آلامه التي هي بالتأكيد آلام شعبه، فحالته ليست شاذة أو استثنائية بالتأكيد. ليست حميره وحدها التي يسرقها المسؤولون، هناك فلاحون كثيرون يسرقون كل يوم. السؤال هو: هل يصلح أي منهم مصدراً للتعرف على الرأي العام؟ لنقترب أكثر من ذلك الفلاح لنتعرف على ملامحه، هو فلاح، وضحية، ومتألم لكن أهم ما يميزه هو أنه مبدع، لديه القدرة على التعبير عن ذلك كله بوضوح، وقادراً على تجاوز آلامه الخاصة والانشغال بالهموم العامة. وبالفعل سنجده في عرضحالاته التالية يتكلم عن موازين العدل في المجتمع نفسه ولا يركز كثيراً على مشكلته إلا بالقدر الذي يتيح له النفاذ منها الى مشاكل المجتمع الزراعي ودور البيروقراطية في تفاقهما. أتصور أن الملك كان على وعي بأن الحقيقة تولد عند الفرد وتموت تحت أقدام الجماهير، وانه عندما تندفع "الجماهير" الى الشارع في حالة قصوى من التعاسة او الغضب او الألم فلا بد أن يسقط بعض القتلى تحت الأقدام، ومع القتلى وبينهم ستعثر على جثة الحقيقة. كان الملك مهتماً ايضاً بأن يعرف، وهذا أمر جميل. الرغبة في المعرفة هي أهم ما يميز رجل الدولة، ومشكلة رجال الدولة في الديكتاتوريات أنهم ليسوا في حاجة الى معرفة بعد أن استعاضوا عنها بالرسالة المقدسة، لذلك يفاجأون بحسابات الواقع ودروعه وعواصفه وثعالبه. قد نتساءل، لماذا لا يصدر الملك قراراً بتعيين ذلك الفلاح مستشاراً لديه؟ الا يضمن بذلك أن يزوده بتقارير حقيقية موضوعية عما يحدث في الشارع؟ الواقع أن الملك أحكم من أن يقع في هذا الخطأ، ففي دائرة الحكم الباردة الشرسة وحولك عشرات الأفراد الأقوياء من أصحاب الآراء والأفكار التي تستند الى النفاق والتذاكي، حتماً ستفقد حريتك في التعبير عما تراه صحيحاً وستحاول دائماً أن تتفادى ذكر الحقيقة كاملة مكتفياً بذكر شريحة منها لا يختلف عليها أحد، لكي لا تغضب عشاق الباطل في دائرة الحكم فتنحسر السلطة والنفوذ والفلوس وتتحول الى اقل من لا شيء. لنفرض انك شخصياً كنت عنترة بن شداد او شخصاً يفوقه قوة وشجاعة، هل كان من الممكن أن تصارح قيادتك السياسية في الثلث الأخير من شهر آيار مايو 1967 بأنها ترتكب خطأً مروعاً بحشد قواتها المسلحة في صحراء سيناء بلا خطة او هدف واضح، وأن فارق التكنولوجيا بينها وبين قوات العدو سيكون كفيلاً بتدميرها في ساعات عدة؟ من المستحيل ان تفعل ذلك بعد أن تحرك الشارع واستولت عليه حمى الحماسة لتمزيق العدو، لا مفر من الاعتراف بأن الرأي الصواب يختفي يأساً أو خوفاً عند ارتفاع درجة حرارة الشارع الى حد الهلوسة. لذلك سنجد أن رجل السياسة المحترف الملحق بالأنظمة الشمولية يرى، لدواعٍ عملية تماماً، ان ذكر الحقيقة حماقة كبرى وأن التعبير بصدق عما يشعر به هو انعدام للكفاءة السياسية. وبالممارسة المستمرة للكذب يفقد القدرة نهائياً على "غربلة" الواقع والتعرف على ما هو صواب، كما تتعطل داخله ماكينة الشعور فيترتب على ذلك ضرورة ان يملأ كل صباح بالحقيقة المفترضة والشعور الواجب إعلانه، تماماً كالساعات القديمة ذات الزنبرك. عودة الى الفلاح الفصيح. اذا كانت هذه البردية تذكر للمرة الاولى في التاريخ ما يسمى بتقارير الرأي العام، فلا شك أنها تكشف أيضاً عن قدم ورسوخ الشق السري في العمل الأمني في مصر القديمة، فبعد آلاف السنين سنقرأ عما يسميه رجال الأمن "تمويل المصدر من دون معرفته"، والعمل على توفير المعيشة له ولأسرته في حدها الأدنى. طعامه هو سيمده به "صديق" وطعام الأسرة سترسله الإدارة المحلية بناء على رسالة سرية. المهم أن يتفرغ هذا المصدر للكلام فتعرف منه القيادة السياسية ما خفي عنها. سؤال: هل من المستحيل أن تجمع الجماهير الفرحة أو الغاضبة على رأي صواب، بمعنى أنه في مصلحة الجماعة؟ الاجابة: نعم، من الممكن في حالة واحدة فقط هي تنفيذ قرار اتخذه العقل الجمعي تماماً، كما حدث في مصر في 9 و10 حزيران يونيو 1967، لقد خرج الناس جميعاً من الاسكندرية الى أسوان، يطالبون عبدالناصر بألا يتنحى عن السلطة. واذا كانت لكل حقيقة أوجه عدة صحيحة فسنختار نحن الوجه الذي يقول، لقد تحرك الشعب المصري ليس لإبقاء عبدالناصر في السلطة ولكن لمنعه من التخلي عنها، لم يخرج الناس تأييداً لشخص بل لمحاصرته ومنعه من مغادرة مكانه. كان هو الربّان الوحيد وكانت كل الخرائط الملاحية في جيبه هو، فكيف يبحرون من دونه والقارب مهدد بالغرق؟ كان صاحب المولد، كيف يتركونه يمشي قبل أن ينفض هذا المولد؟ كان الشعور المر بالاستنكار هو السبب العميق لخروج الناس الى الشارع، وهذا هو بالضبط ما عبّرت عنه نكتتان ظهرتا في ذلك الوقت، الاولى تقول إن الناس كانوا يهتفون في سرهم أ.. أ.. لا تتنحى. والثانية عن شخص سأله زميله عن الساعة فرد عليه: "تسعة وعشرة". فصاح فيه ساخطاً: "انتم حاتذلونا بتسعة وعشرة؟!". كان قرار العقل الجمعي صواباً وكان العقاب مروعاً لم يتحمله الرجل أكثر من ثلاثة أعوام. والرأي عندي ان آلافاً عدة من البشر يخرجون الى الشارع صارخين مطالبين بشيء، من المستحيل أن يكونوا معبرين بحق عما يسمى بالرأي العام. أما عندما يخرج الناس كلهم فيغطون مساحة البلاد مطالبين بشيء، فمن المؤكد أن ما يطالبون به صواب وشرعي. المكافئ لذلك والمعبر عن ذلك كله هو أي شخص عادي لم تفسده السياسة، ولم تلوثه أجهزة الإعلام الفاشية. ترى هل له وجود؟ * كاتب مسرحي مصري.