الكتاب: موطن الأسرار - رواية المؤلف: شاكر الأنباري. الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1999 بعد "ثمار البلوط" و"شجرة العائلة" و"أنا والمجنون" أعمال قصصية وروايتيْ "ألواح" و"تشكيل شامي"، يسعى القاص والروائي العراقي شاكر الأنباري في روايته الجديدة "موطن الأسرار" الى خلق وتشكيل أساليب العمل الروائي وبنائه وفق نظام لغوي ينهل من المحسوس اليومي شكل وجوده وملامحه. وهنا نراه يقيم جسوراً بين الأصوات والمشاهد المتعددة في الواقع ومراياه وانعكاساتها المتكسّرة وهي تتناثر على هيئة تنوع كلامي وبوح مشهدي يقترب من بنية التعبير النصّي المتداخل بدراميته وشخوصه وأزمنته وأمكنته، الى محو الحدود بين كلامه وكلام الآخر الذي هو احد تجليّات البطل الشخصية المركزية ولتظهر الرواية منطقة نفوذ سردية تحمل دائرة صوته الواسع المباشر، اضافة الى ظلاله المنتشرة وتدرجاتها في ظلال الآخرين. "موطن الأسرار" عن شخصيات تعيش خارج حدود وطنها بين الشرق وأوروبا، ممزقة بين الخيارات الحضارية والمكانية هذه، وتبدو كنماذج او علامات متشظية في شكل انقسام وجودها. يظهر في الرواية مستويان: الأول يبدو فيه البطل كونياً بسبب التجربة الوجودية التي عاشها، والتعامل مع مختلف الشعوب والحضارات والأديان والامكنة، لتصبح جميع البلدان من خلال ذلك وطنه الرمزي: الأرض كلها وطنه. المستوى الثاني: الرابط الأول أو حبل المشيمة الذي يشده باتجاه بيته الأول الذي لم يستطع ان يتخلى عنه. كثيراً ما تثيره قضية اللغة والتماهي مع الناس، والروائح، والضوء، والشمس، والاشياء التي لا يمكن التغلب عليها. هنا بين المستويين يظهر عجزه عن التواصل في الجهة الاخرى من العالم فتنكشف بلاغة الحنين القاسي ومشاركته العضوية في الفضاء والمسار الكلي للرواية ومحاولة الراوي دمجه بكل تاريخه: فعندما ينظر الى درج في دمشق القديمة يتخيل الاشخاص الذين مرّوا عليه، والقصص التي دارت حوله، الظلال المرمية فيه، السطوح والنوافذ التي على جانبيه... الخ فيتحول، بذلك، الدرج الى جنة اسطورية تمتلك لحظتها التاريخية موضوع احداث او مصدراً من مصادر التجربة الحميمية مع المكان بكافة مرجعايته. ثمة حنين مترسب في روح بطل الرواية الغائب المستتر خلف السرد من دون اسم، بسبب بعده الجغرافي عن جذوره الأولى، محاولاً الاتكاء والرجوع الى الشرق للبحث عن التواصل الكامل مع الحياة والمجتمع والمرأة. يجمع لديه جميع الشخصيات وحضارتين وجهات ثقافية: شرق/ غرب، وامرأة شرقية وغربية وأخرى لاتينية: زوجته البرازيلية. نصوص الرواية تضجّ بإيقاعات وروائح الأمكنة واستدعاء لغاتها المتعددة التي تكشف عن العالم الثقافي والوجودي لها، وتكوين تراكيب اسلوبية لمقولات هذا العالم وامكاناته التعبيرية، والتعامل معه من مختلف المنظورات سواء القصصية او الشعرية او الجمالية. وهذا ما يمنح "موطن الاسرار" تلك الدهشة الكبيرة دهشة النظر الى العالم المحيط والسعي الى تجريده. ما يلفت الانتباه ان معظم الشخصيات التي تدور حول البطل نسائية: هيام المرأة الدمشقية تمثل المجتمع المعاصر بحقائقه وأقنعته، ظاهره وباطنه. وشخصية تاتا زوجته البرازيلية مثّلت الحضارة الاخرى التي رأى انه من الصعوبة الاستمرار فيها. فالمرأة، هنا، على اختلاف جغرافيتها شريحة مختبرية وأرشيف مجتمع بإمكانه ان يعطينا كافة الدلالات عن فضاء وحركية وجوده وطبيعته. اضافة الى شخصيات اخرى ثانوية، قلقة تبحث عن شيء مفتقد، وتلعب لعبتها الوجودية، لكنها لا تملك رسالة او مشروعاً بذاته، تعيش قلق الوجود والزوال وهاجس البحث عن جنّة او فردوس مفترضين. يعود البطل في الرواية الى دمشق، عائداً من أوروبا، باحثاً عن الرحم الذي خرج منه، لكنه يصطدم، دائماً، بالوهم الذي يخلّفه مجاز الأرض الموعودة - الأرض الحقيقية اللاهبة بلحظاتها ودلالات خلودها الانساني. مدار الكتابة في الرواية سردي حرّ، استطرادي، يلعب بحركة الزمان والمكان، يذكرك بالبنية الكتابية والسردية "ألف ليلة وليلة" و"الألواح البابلية" القديمة باجتزائها وتناثرها السردي. اتخذ شاكر الأنباري في اسلوب كتابته الرواية نمطاً اسلوبياً اعتمد فيه على الفسيفسائية، مع حرية الانتقال داخل النص زمانياً في طريقة صناعته وتأريخه لماضي الشخصية وحاضرها، او ماضي المكان وحاضره... الخ. يمكن تلخيص محاور الرواية ب: الانتقالات الزمنية بين الماضي والحاضر والوقوف وقفة خاصة عند كل مرحلة مع ربطها بالانتقالات المكانية الخاضعة للعبة السرد والحدث الروائي. وتحويل التجربة من سيرة امكنة ومدن وبشر الى سيرة ذاتية هي بمثابة سجل حقيقي تشكلت منه طبقات الرواية، اي النظر الى عنصر السرد، ليس من وجهة نظر تصويريته الموضوعية، بل من وجهة نظر تصويريته الذاتية. - بطل الرواية الذي يبدو محوراً للشخصيات الاخرى في دوامة القلق واللااستقرار الذي تعيشه. - الانتماء الى الحاضر الروائي مع حساسية عالية في رؤية المكان والمحسوسات. شاكر الأنباري في "موطن الاسرار" ينتمي بامتياز الى أدب المنفى الذي برز خارج العراق، الى جانب جنان جاسم حلاوي، محيي الأشيقر، سليم مطر كامل، كريم عبد، نجم والي، فاضل الربيعي، زهير الجزائري، وفاضل العزاوي... وغيرهم.