الكتاب: أثر الغرب في الموسيقى العربية المؤلف: فكتور سحّاب الناشر: دار الحمراء للطباعة والنشر - بيروت 1999 مع بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدأت تظهر ملامح تأثر، مباشر أو غير مباشر، الحركة الموسيقية العربية بالغرب. وإذا استعرضنا وقائع هذا الاحتكاك وعوامل التأثر هذا بشكل أو آخر، لصح أن نبدأ بعهد الخديوي اسماعيل والتبادل الثقافي والموسيقي الذي حدث لمناسبة افتتاح قناة السويس. فقد أوفد الخديوي الى فرنسا عبده الحمولي وذلك في سياق الاستعداد للإحتفالات سنة 1869، فلحّن الحمولي دور "ألله يصون دولة حسنك" فيما كان فيردي الملحن الإيطالي، يضع أوبرا عايدة لافتتاح القناة. لكن الأوبرا تأخرت سنتين، فقدّم الإيطاليون أوبرا ريغوليتو في حفلة الافتتاح، وكان هذا، على ما يبدو، اول عرض موسيقي غربي كبير في مصر. ومع ان محمد علي كان قد سبق الخديوي واستعان بالخبراء الفرنسيين، وأنشأ في مصر "مدرسة الأصوات" التي كان يفترض ان تكون بؤرة التأثر المصري بفنون الغرب الموسيقية، إلا أن هذا التأثر لم يظهر في سلوك عبده الحمولي او محمد عثمان، كبيري موسيقيي مصر والعالم العربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. إذ تأثر عبده الحمولي بالموسيقى التركية، لا بالغربية. وفي هذا الصدد يقول الدكتور سحّاب ان انحدار الأعراق التركية من الشعوب الهندو - أوروبية من جهة واعتناقهم الاسلام من جهة اخرى جعل هويتهم في تجاذب لم يحسم لا في السياسة ولا في الموسيقى. فاذا كان مستحسناً ألاّ يغفل التأثير التركي في الموسيقى العربية، إلا ان تأثير الغرب في الموسيقى العربية في العصور الحديثة، جاء معظمه من غرب أوروبا. بعد هذا ينتقل الدكتور سحاب ليتناول المسرح الغنائي مع افتتاح قناة السويس بأوبرا ريغوليتو عام 1869. كان التأثر قد اخذ يظهر بوضوح خصوصاً بعد تقديم أوبرا عايدة عام 1871، وما لبثت فنون المسرح الغنائي على الطريقة الأوروبية أن أخذت تظهر. ففيما كان المسرح الغنائي العربي في معظمه، كما يقول الدكتور سحاب، يقدّم لمرتاديه غناء عادياً على خشبة المسرح او في السرادق، كان المسرح الغنائي الأوروبي يقدّم روايات مغنّاة فيها تمثيل وفيها موسيقى وغناء مرتبطان ارتباطاً عضوياً بالرواية وقصتها ومحاوراتها. وقد اخذ هذا النمط من المسرح الغنائي، المستوحى من فن الأوبرا والأوبريت، بالظهور في مصر سنة 1883، مع نزوح أحمد أبو خليل القباني واسكندر فرح من بلاد الشام الى مصر، وبدء تقديم فرقة القباني رواياتها المغنّاة هناك. وقد شجّع الخديوي اسماعيل المسرحيين والموسيقيين على خوض غمار المسرح الغنائي، مع تقديره للموسيقى العربية التقليدية، هذه السياسة هي التي تلقفت القباني وفرقته عام 1883. وكانت هذه اول فرقة للمسرح الغنائي الذي يعتبر اول اثر كبير من الغرب في الموسيقى العربية. وقد نجحت محاولات كثيرة في الموسيقى العربية المعاصرة للإستفادة من أساليب الغناء الأوبرالي، وفشلت محاولات كثيرة عالجها الدكتور سحّاب بشكل مفصّل مستعيناً بنماذج مسجلة تتيح للقارئ استخلاص قاعدة تمكّنه من معرفة العلّة الأساسية لفشل بعض المحاولات ونجاح البعض الآخر. ثم ينتقل الدكتور سحّاب في حديثه الى الآلات الموسيقية فيتناولها بالتفصيل منذ اوائل القرن التاسع عشر مع المدارس التي أسسها محمد علي في مصر واستقدامه اساتذة فرنسيين للتعليم فيها مفترضاً ان آلات النفخ النحاسية لا بد أنها أخذت حيزاً جيداً فيها، مع الطبول الكبيرة التي تستخدم في فرق الموسيقى العسكرية. ثم يتناول الآلات الوترية فيخالف الكثير من النقّاد الموسيقيين الذين يعتقدون ان آلة الكمان دخلت الموسيقى العربية في القرن العشرين مستشهداً بالمؤرخ الموسيقي غيوم فيوتو في كتابه "وصف مصر" الذي وضعه اوائل القرن التاسع عشر وهو الذي رافق بعثة شامبليون الفرنسية اثناء غزوة نابليون لمصر، إذ يقول فيوتو انه لاحظ وجود ما سمّاه "الكمنجة الرومي"، أي اليونانية، متداولة لدى موسيقيي مصر وهي شبيهة بالفيولا الغربية ولا تختلف عنها إلا بنظام شد الأوتار الدوزنة. غير ان معرفة زمن انتشارها في مصر، واستخدامها في الموسيقى العربية غير متوافرة الآن. هذا بالاضافة الى ان فيوتو وصف في كتابه ثلاث آلات اخرى هي الكمنجة العجوز والكمنجة الفرخ والرباب. إلا ان وصفها وصورها المنشورة، تجعلها من الآلات الوترية التي لا صلة مباشرة لها بالكمان الغربي. اما الكمان الغربي المعروف بقياساته ونظام شد اوتاره فانه، كما يقول الدكتور سحّاب، كان متداولاً في الموسيقى العربية في النصف الاول من القرن التاسع عشر. يقول قسطندي رزق في كتابه "الموسيقى الشرقية والغناء العربي" ان امير الكمان سامي الشوّا عزف على كمانه في الحفلة التي أقيمت بمصر لجلالتي ملك وملكة إيطاليا عام 1933. وقد ظلّت عائلة الشوّا تتوارث العزف على الكمان لأجيال عدة، وهذا ما يؤكد ان الكمان الأوروبي كان متداولاً في الموسيقى العربية في النصف الاول من القرن التاسع عشر. اما اول رصد في المصادر عن استخدام البيانو في الموسيقى العربية، فهو عزف قسطندي منسّى دور كادني الهوى لمحمد عثمان سنة 1888. اما في التسجيلات التي وصلت الينا، ودائماً بحسب الدكتور سحّاب، من أغنيات سلامة حجازي ويوسف المنيلاوي وغيرهما، بعد دخول الفونوغراف والأسطوانة الى مصر والعالم العربي، فلم يلحظ عزف البيانو إلا ابتداءً من سنة 1917 في مسرحيات سيد درويش الغنائية. ولم يكن استخدام البيانو في هذه الأغنيات المسرحية موفقاً على الدوام، اذ لم يكن البيانو قادراً على أداء ارباع الصوت في بعض المقامات وعدم ائتلافه مع اللحن العربي في بعض المحاورات. واذا كان استخدام البيانو في اغنيات الشيخ سيد غير موفق، فلأن التجربة كانت لا تزال في بدايتها، ولم تكن قواعد استخدام الآلات المعدلة قد نضجت بعد. والحق ان هذه التجربة، كما يقول الدكتور سحّاب، أنضجت في الممارسة الموسيقية التي تزعمها محمد عبدالوهّاب ومحمد القصبجي وآخرون فيما بعد. وكان أوضح رأي في مسألة ادماج الآلات الغربية في الموسيقى العربية، وأكثرها تفسيراً للحل السليم الذي اعتمد فيما بعد، هو الرأي الذي قاله عبدالوهّاب، لمناسبة انعقاد مؤتمر الموسيقى العربية الأول سنة 1932 في القاهرة. إذ سأله مندوب مجلة "الصباح": والآلات الافرنجية، كالبيانو مثلاً، وادخالها على الآلات الشرقية؟ فأجاب محمد عبدالوهّاب: كل الآلات غير الوترية تحتاج لبحث دقيق، ولا يتسنى لإنسان ان يبدي رأيه فيها بسرعة، اما الآلات الوترية بسائر انواعها فنستطيع القول بصلاحيتها للموسيقى الشرقية. بعدها يعرج الدكتور سحّاب، في معرض تسجيله تاريخ تأثير الغرب في الموسيقى العربية الى تأثير المبتكرات الغربية التكنولوجية في هذه الموسيقى، من الاسطوانة فالميكروفون والإذاعة والسينما وما اليها. ذلك ان التبدل الذي احدثته هذه المبتكرات، بتأثيرها في اساليب عمل الموسيقيين العرب وأدوات عملهم، لم يكن طفيفاً. ما تناولناه لا يعدو كونه عناوين رئيسية للرصد الذي سجله لنا الدكتور سحّاب لما خلفه التماس العربي مع الغرب منذ قرنين من آثار في الموسيقى العربية. فالمؤلف يتناول الآلات الموسيقية بالتفصيل الموثق لينتقل الى المقامات بأنواعها ليشرحها مع تقديم النماذج المسجلة على اشرطة ثم ينتقل الى الايقاعات وانواع التلحين وأشكاله ومضمون الألحان ثم التدوين والتسجيل ثم السرقة او الاقتباس الموسيقي والأوبرا والغناء فالموسيقى السمفونية "العربية" مع عرض لوجهة نظره الشخصية في المسائل التي يطرحها التأثر، وفي فوائد التأثر ومضاره، وبعض اقوال كبار الموسيقيين في هذه المشكلة الحضارية الخطيرة، التي لم ينته السجال فيها حتى الآن.