حتى في أيام غورباتشوف، الذي سيقول منتقدوه انه "أسلم قياده كلياً للغرب، وساهم في نسف الكتلة الاشتراكية"، كانت القيادات الاميركية تتعامل مع القيادات السوفياتية تعامل الندّ مع الندّ، وإن كان الندّ الثاني اضحى اكثر ضعفاً من ذي قبل، ومستعداً للتنازلات تلو التنازلات. ولأن التعامل كان هكذا، ولأن الاتحاد السوفياتي كان لا يزال قائماً بترساناته العسكرية الضخمة، وقدرته على تهديد العالم الغربي "العالم الحر" حتى ذلك الحين، كانت واشنطن تنظر بعين الحذر اليه. من هنا كانت المفاوضات والمباحثات بين الطرفين تنتهي بلمسة شك، وبوعد بجولات مقبلة، على أمل ان تكون موسكو ضعفت اكثر، وأسلمت قيادها أكثر. هذا الوضع تجلى بصورة خاصة في نهاية شهر تموز يوليو 1991 خلال القمة الشهيرة التي عقدت بين الزعامتين الاميركية والسوفياتية في موسكو، وكانت اول قمة على هذا المستوى بعد انتهاء الحرب الباردة. وخلالها وقع الرئيسان معاهدة "سالت" التي كان التفاوض بشأنها قائماً منذ تسع سنوات وتنص على تخفيض الدولتين ما يتراوح بين 25 في المئة و30 في المئة من اسلحتهما الاستراتيجية النووية. بعد ذلك، في اليوم الثاني والعشرين من شباط فبراير من العام التالي، عند نهاية لقاءات تمت هذه المرة بين وزير الخارجية الاميركي جيمس بيكر الذي زار موسكو، والرئيس الروسي بوريس يلتسن، كان ثمة بحث جاء ايضاً في المواضيع نفسها، لكن نسبة القوى وفحوى المباحثات وهدفها كانت تبدلت تماماً. هذه المرة لم يكن اللقاء بين خصمين قويين يسعيان الى التفاهم، بل بين دولة كبرى ودولة "حليفة لها"، حسب ما قالت اوساط الكرملين والبيت الأبيض، او بين دولة كبرى وكيان يحاول ان يعيش تبعية ازاءها، حسب ما سيقول معارضون في روسيا. فما الذي تبدل خلال التاريخين؟ امور كثيرة، اهمها كان زوال الاتحاد السوفياتي، وبالتالي انتهاء عصر غورباتشوف الذي استقال يوم 25 كانون الأول ديسمبر 1991 بعد ان زال الاتحاد من الوجود ولم يعد زعيماً لأي شيء على الاطلاق، اذ ورثت روسيا الاتحاد السوفياتي وأصبح رئيس روسيا، بالتالي، رئيساً للدولة الجديدة. قبل ذلك كان انقلاب "آب/ اغسطس" الشيوعي الذي حاول اعادة أمور الاتحاد السوفياتي الى نصابها، وكان التدخل الاميركي المباشر دعماً ليلتسن ضد الشيوعيين. ثم كان، خصوصاً، اجتماع وزراء خارجية حلف شمال الاطلسي بوزراء خارجية الدول التي كانت اعضاء في حلف "وارسو" وهو الاجتماع الذي وجه اليه يلتسن رسالة "تطرح للمرة الأولى بكل وضوح وصراحة مسألة انضمام روسيا الى الحلف الاطلسي كهدف سياسي على المدى الطويل". من هنا، فإن ما أتى جيمس بيكر يفعله ويعلنه بعد اجتماعاته ببوريس يلتسن، لم يفاجئ احداً، لا سيما حين اعلن الرجلان عن تأسيس "مركز عالمي للعلوم والتكنولوجيا" والغاية المعلنة منه، وعلى الأقل حسب التفسير الاميركي "استخدام الاخصائيين في العلوم النووية من رعايا الاتحاد السوفياتي السابق، للقيام بمهام ذات أهداف سلمية". وكان من المتفق عليه ان تتولى الولاياتالمتحدة ومجموعة الدول سابقة العضوية في الاتحاد السوفياتي تمويل ذلك المشروع. وفي حقيقة الأمر كان من الواضح، بالنسبة الى المراقبين، ان مجرد الاعلان عن هكذا هدف، انما يعني - وفي المقام الأول - دفن كل الطموحات الروسية - و"السوفياتية" ان كان ثمة، بعد، معنى لهذه الكلمة - في مجال التسلح النووي، الى الأبد. اذ في مقابل تلك المهمة الجديدة التي حددت للعلماء الروس، وغيرهم من علماء الدول والأمم الشقيقة الاشتراكية سابقاً، لم تطرح مهمة مماثلة على العلماء الاميركيين او الغربيين بصورة عامة. ما عنى، في ذلك الحين، وعلى الأقل في نظر المعارضين، ان جيمس بيكر لم يأت الى موسكو الا ليدفن، مرة والى الأبد، كل ندية في العلاقات بين الطرفين، وذلك عبر "شراء" قطاع بأسره من قطاعات النشاط العلمي والاستراتيجي في روسيا وفي غيرها. اذاً، بعد ذلك اللقاء فقط، صار بامكان المحللين ان يتحدثوا عن "نظام عالمي جديد" يصفونه بأنه "أحادي الجانب".