مع عودة الحياة السياسية الى طبيعتها في واشنطن نقول انه لم يكن غريباً أن ينجو الرئيس كلينتون من محاولات عزله، بل كان الغريب الا ينجو، فمجلس النواب الأميركي طلب عزله على أساس مبادئ وقيم واعتبارات لم تعد موجودة، وبدا مجلسا النواب والشيوخ في عزلة عن الأميركيين الذين أيد كل استفتاء لهم الرئيس، وعن بقية العالم. في الستينات استقال جون بروفيومو من وزارة الدفاع البريطانية بعد ان كذب على البرلمان إثر افتضاح أمره مع غانية. وفي السبعينات استقال ريتشارد نيكسون قبل اقالته بعد كذبه على الكونغرس والشعب الأميركي في فضيحة ووترغيت وعرقلته التحقيق. وفي الثمانينات استقال اللورد كارنغتون من وزارة الخارجية البريطانية لأنه ارتكب "خطأ جنتلمان" فلم يتوقع غزو جزر الفولكلاند. غير اننا في التسعينات الآن، والكذب ملح السياسة والسياسيين. اما المغامرات الجنسية فتسابق النساء فيها الرجال، ولا تثير استغراباً أو اعتراضاً عند أحد. الشهر الماضي أحيت فرنسا الذكرى الثالثة لموت الرئيس فرانسوا ميتران، وقد اعتادت على منظر ابنته غير الشرعية مازارين، وهي تلقي وردة حمراء على ضريحه. بل ان فرنسا أخذت تعوّد نفسها على فضائح مالية خلال 14 سنة من حكم ميتران، بما في ذلك ما يسمونه الآن "قضية جوزفين" التي يفترض ان الحكم الاشتراكي سرق فيها حوالى بليون دولار بطريقة أو أخرى. ونبقى في فرنسا فالسفيرة الأميركية في باريس باميلا هاريمان التي توفيت قبل سنتين، وهي من أصل ارستقراطي بريطاني، كانت من أشهر غانيات القرن، ومغامراتها العاطفية مسجلة معروفة لم تمنعها من تسلّم أحد أهم المناصب الديبلوماسية الأميركية على الاطلاق حتى وفاتها. واليوم في بريطانيا هناك الليدي مارغريت جاي، مطلقة الصحافي المشهور بيتر جاي، الذي عمل سفيراً لبلاده في واشنطن، حيث بقيت مارغريت عشيقة للصحافي كارل بيرنستين الذي كشف فضيحة ووترغيت. وكان بيرنستين متزوجاً من الكاتبة نورا ايفرون، فألفت هذه رواية "الغصة في القلب" عن علاقة زوجها ومارغريت جاي، وأصبحت الرواية المغلفة بتمويه بسيط فيلماً مشهوراً. وأرجو ألا يعتقد القارئ العربي انني اكشف سراً، أو أخوض في خصوصيات الناس، فالصحف البريطانية تردد أكثر من هذا ألف مرة عن باميلا هارمان ومارغريت جاي وأمثالهما. اليوم مارغريت جاي لا تئن تحت وطأة الفضيحة أو تدفع ثمنها، بل هي رئيسة حزب العمال في مجلس اللوردات، وتلعب دوراً أساسياً في محاولة حزب العمال اصلاح هذا المجلس، وانهاء دور اللوردات الوراثي فيه. وهنا نعود الى بيل كلينتون فما هي جريمته أو جرائمه؟ هو مارس علاقات جنسية محرمة وكذب. غير أننا في التسعينات، وقد تغيّرت المفاهيم أو قلبت على أعقابها، لذلك فالتعليق على تجاوزات كلينتون هو مجرد "شو فيها؟" أو "فيها أيه دي؟" وليس عزله. لو كان الجنس جناية، أو حتى جنحة في التسعينات لما أكمل الفرنسي ميتران ولايتيه وفرنسا كلها تعرف عن ابنته غير الشرعية، ولما كانت الأميركية هاريمان نجمة سياسية على جانبي المحيط الأطلسي، ولما نيط بالليدي مارغريت جاي عمل خطير من نوع اصلاح مجلس اللوردات. قرأت على هامش مشاكل كلينتون مقارنة بينه وبين النائب والوزير المحافظ السابق جوناثان ايتكن في الكذب، وقد نشرت لكل منهما صورة بدا فيها أنفه طويلاً جداً، اشارة الى خرافة الولد بينوكيو الذي كان أنفه يطول عندما يكذب. لو كان أنف بنيامين نتانياهو يطول عندما يكذب للف الكرة الأرضية. وقد قرأت للصحافي الأميركي المشهور توماس فريدمان مقارنة طريفة بين كلينتون ونتانياهو. وذكّرنا المقال باعتراف نتانياهو سنة 1993 انه أقام علاقة جنسية محرمة، بعد أن عرف ان خصومه عرفوا بها وسيفضحون أمره. وهكذا قطع باعترافه الطريق على استغلال الموضوع. وهو كذب على زوجته الثالثة ساره، وعلى زوجتيه السابقتين، إلا أن كذبه "الجنسي" يهون مع كذبه السياسي، فكل من تعامل معه من داخل حزبه، يقول عنه انه كذّاب محترف. ومع ذلك انتخب نتانياهو في التسعينات رئيساً للوزراء، وكذبه الخاص والعام معروف للاسرائيليين كلهم. وأختتم اليوم بقصة سريعة، ففي مقابلة تلفزيونية قبل سنوات اتهم مذيع الرئيس عرفات مرة بعد مرة بنقص الممارسة الديموقراطية في الأراضي الفلسطينية. وأخيراً ضاق ذرع أبو عمار فسأل المذيع عن أي بلد عربي فيه ديموقراطية. وأضاف: "اشمعنى أنا". وأسرع المذيع الى تغيير الموضوع قبل أن يتحدث أبو عمار عن الديموقراطية في بلد المذيع. ولعل بيل كلينتون يقول لأعضاء الكونغرس شيئاً قريباً مما قال أبو عمار... "اشمعنى أنا".