فقدت اسبانيا الأسبوع الماضي واحداً من أهم كتابها المعاصرين الذين أثروا الحياة الثقافية خلال ما يزيد على نصف قرن، وأحد أبرز من حصلوا على جوائزها الأدبية، مثل جائزة أمير استورياس، وجائزة "ثرفانتيس" التي تعتبر بالنسبة الى كتاب اللغة الاسبانية أكبر جائزة أدبية بعد "نوبل"، فقد رحل الكاتب والروائي والمسرحي والناقد "غونثالو تورنتي بايستير" عن عمر يناهز الثمانية والثمانين عاماً، بعد حياة طويلة حافلة بالاحداث. بايستير من مواليد 1910 ينتمي الى أسرة متوسطة الحال كانت تعيش في قرية قرب مدينة "فيرول" شمال غربي اسبانيا، وكان والده بحاراً معروفاً، وهي المهنة التي يمتهنها عادة ابناء تلك المنطقة المفتوحة على المحيط. وتعشش في أذهان صغارها حكايات الجن وعرائس البحر التي يقصها عجائزهم عن أزمنة غابرة غير معروفة، وتغذي الشباب بحكايات أخرى من فلكلور تلك المنطقة التي تشتهر فيها الطقوس الخاصة بسيدات العشق، وحكايات الساحرات اللاتي يملكن مفاتيح القلوب، ويسخرن الكائنات الغربية لتنفيذ الرغبات. في هذا المناخ السحري الذي يختلط فيه الواقع بالخيال نشأ غونثالو تورنتي بايستير، وتربى على تلك الحكايات التي كان يسمعها من جده العجوز الأعمى، الذي كان يعوض فقد بصره بقص الحكايات المليئة بالألوان التي لا تستطيع ان تراها عيناه مباشرة. لم يكن غونثالو في شبابه كاتباً لامعاً، بل كانت كتاباته لا تجد أي صدى لها، سواء لدى النقاد، أو لدى الجمهور العادي، لأنه لم يكن منتمياً الى أي من المجموعات الأدبية التي تحاول لفت النظر بالممارسات الشاذة التي كانت ولا تزال تنتشر في اسبانيا، فقد عاش فترات طويلة معتقداً انه دخيل على عالم الكتابة الأدبية، "أنا شخص غير مرغوب فيه في الحياة الأدبية، نعم، لكني تابعت طريقي بغض النظر عن انتقادات الآخرين، وعن الموضات السائدة، كنت أكتب دائماً ما اعتقد انه الأدب الصحيح". كانت كتاباته نابعة دائماً من الخبرة الحياتية، فقد كان يرى نفسه شخصاً عادياً يحاول الانتصار على الكتابة من خلال الاستمرار فيها، وكان يرجع ابتعاده عن السائد في اسبانيا في ذلك الوقت الى انه كان أقرب الى الكتابات السائدة في بريطانياوالولاياتالمتحدة، وكان يقول: "لندن ونيويورك وبوينس ايريس أقرب الي من مدريد". ويرجع هذا في رأي النقاد الى انه قرأ الكلاسيكيين في اللغة الانكليزية قبل ان يكمل اطلاعه على الكلاسيكيين في الأدب الاسباني، لكنه كان منذ بداية حياته وحتى رحيله عاشقاً لأدب ثرفانتيس، الذي يعتقد انه كتب في لغة لم تقدره حق تقديره، وكتب عن رائعته "دون كيخوتة" أحد أهم الكتب التي تناولت تلك الرواية الخالدة "الكيخوتة كلعبة" عام 1975، ويرى ان تعلقه بالكتّاب الانكليز يعود الى تأثير "ثرفاتنتيس" الواضح عليهم، أكثر من تأثيره على كثير من كتاب اللغة الاسبانية على رغم انه يعتبر تراثهم المباشر والرئيسي. كان خلال شبابه متمرداً في مجال الكتابة على العادي والتقاليع الأدبية، وهذا سبب له المشاكل مع الرقابة، وعلى رغم انه كان جمهورياً في شبابه إلا ان طبيعته غير الصدامية جعلته يقبل على الانضمام الى حزب "التالانج" اليميني ليتقي غضب نظام فرانكو، وكان انضمامه على أثر عودته من باريس بعد هزيمة الجمهورية خلال الحرب الأهلية وبناء على نصيحة أحد كهنة الكنيسة الكاثوليكية، وتمكن من العمل كناقد مسرحي لصحيفة الحزب، لكن تلك العلاقة في التعامل مع النظام سرعان ما انتهت عندما وقع عام 1962 على بيان معاد لنظام فرانكو، يدين فيه العنف الذي مارسته الشرطة ضد عمال مناجم الفحم الذين تظاهروا مطالبين بتحسين ظروف عملهم، فطرده الحزب من صفوفه ومنعه من الكتابة في الصحيفة، وتم وقفه عن العمل في المدرسة الحربية التي كان يعلم فيها التاريخ. كانت الرقابة تتعنت في معاملة كتاباته، وتطلب منه حذف الكثير، وصرح حديثاً انه كان يخدع الرقابة بكتابة مشاهد مرفوضة ليجذب عين الرقيب ويبعدها عن الآراء الحقيقية التي كان يرغب في كتابتها، وانه كثيراً ما نجح في ذلك لأن الرقيب كان يطلب شطب المشاهد الفاضحة ليترك له ما كان يرغب في ان تتضمنه الرواية. عدم الإقبال الجماهيري أو النقدي كاد يدفعه الى ترك تلك "الهواية" بعد صدور روايته "دون خوان" الصادرة عام 1963، عندما وقف في معرض الكتاب في انتظار الجمهور وتمكن من بيع نسخة واحدة. فبينما كان في الزاوية المقابلة كاتب متوسط القيمة يوقع على نسخ كتابه لطابور طويل من الجمهور، كان عرضاً للتدريس في الولاياتالمتحدة أنقذه من وضعه المادي المتدهور وعدم إقبال النقاد والجمهور على أعماله الأدبية، وعلى أثر ذلك كتب ثلاثيته: "اللذة والظلال" التي كانت في الحقيقة نوعاً من التحدي لأحد الأعمال التي كتبها أحد الكتاب الناجحين المحدودي الموهبة، ليعيد الى أذهان النقاد ثلاثيته الناجحة التي لم تلق نصيبها من الشهرة "السيد يصل" 1957 و"حيث يدور الهواء" 1960 و"العيد الحزين" 1962. تلك الاعمال الروائية التي جاءت بعد عدد كبير من الاعمال المسرحية التي لم تر النور لأنها كانت - على حد وصف نقاد ذلك الوقت - مسرحاً ذهنياً مثقفاً لا يصلح للجمهور العادي، الذي كان يتكون وقتها من الأثرياء الجدد، الذين جمعوا ثرواتهم بالمتاجر بآلام الشعب الاسباني خلال الحرب الأهلية. ثم كانت روايته الرائعة "العائلة - هروب خ.ب" 1971 وحصلت على جائزة مدينة برشلونة، وكانت أيضاً الفائزة بجائزة النقاد للعام نفسه، لكن بداية الشهرة الحقيقية لهذا الكاتب، كانت على أثر إعداد روايته "اللذائذ والظلال" وتقديمها على حلقات في التلفزيون، شهرة أدبية جاءت متأخرة جداً عن موعدها، بلغها وهو في الحادية والستين من عمره. من أهم الاعمال الروائية التي أبدعها بايستير: "جزيرة الزعفران" 1980 و"دفاتر العراف الكسول" 1982 و"تاريخ الملك المحنط" 1989. رحيل بايستير ترك فراغاً كبيراً كان يحتله الجيل الذي عاش أهوال الحرب الأهلية، وأيضاً ترك فراغاً بين الكتاب المتواضعين الذين يرون في الكتابة طريقة لتأكيد الهوية الشخصية، وليست طريقة للزهو والغرور، وصفه الكاتب البرتغالي "خوزيه ساراماغو" الحاصل على جائزة نوبل لعام 1998 "ان رحيله ضربة قاسية... ولا يملك الانسان امام تلك الضربة سوى الصمت... صمت ذلك الانسان الذي رحل وترك خلفه عملاً رائعاً".