تعرض قطاع النفط في لبنان اثناء الحرب الاهلية الى عملية تفتيت استمرت حتى الى ما بعد استقرار الأوضاع الأمنية والسياسية. وتغيرت معالم القطاع وآلية العمل فيه وغدت الشركات الخاصة تهيمن على مقدراته، مما يتعارض مع سلطة الدولة ومسؤولياتها في إدارة قطاع يمثل 90 في المئة من الطاقة المحركة للاقتصاد الوطني. وانطلاقاً من سياسة العهد الجديد في بناء المؤسسات وتعزيز دورها في خدمة المواطن وتأمين المصلحة العامة، كان لا بد من اعادة النظر بهيكلية القطاع بما يضمن تحقيق أهداف هذه السياسة. وعُهد بوزارة النفط الى شخصية قانونية، عُرفت بالنزاهة والإخلاص، واسندت الى السيد سليمان طرابلسي المدعي العام السابق في ديوان المحاسبة. ووضع الوزير الجديد تقريراً شاملاً هو بمثابة مسح كامل لأوضاع القطاع طارحاً أمام مجلس الوزراء حلولاً عدة مع بيان حسناتها وسيئاتها، ليختار من بينها الأفضل والأكثر ملاءمة. والتقرير، على رغم شموليته، تضمن معلومات ومعطيات ناقصة في بعض الأحيان سيما ما يختص بالمصفاتين ودور شركات التوزيع مما يستدعي ابداء الملاحظات الآتية: اولاً - يذكر التقرير أن عجز موازنة المصفاتين في الأعوام 1991 و1992 و1993 بلغ ثلاثين مليون دولار، وان العجز بلغ العام الماضي نحو ثمانية ملايين دولار. ولم يتطرق الى أسباب العجز. والواقع أن المسؤولية لا تقع على إدارة المصفاتين إنما يتحملها الوزراء الذين امتنعوا عن تزويدهما بالنفط الخام. ونذكر على سبيل المثال أن مصفاة طرابلس لم تعمل عام 1992 سوى فترة وجيزة لا تتعدى 45 يوماً، أما مصفاة الزهراني فقد أُخضعت في عهد الوزير الأسبق أسعد رزق لتجربة استغرقت شهراً انتهت بتعطل وحدة التقطير. ويقول أحد المهندسين المختصين في تشغيل المصفاة ان النفط الذي لُقمت به الوحدة كان يحتوي على نسبة عالية من المياه والرواسب. وكان من المفترض في المسؤول الفني آنذاك أن يتأكد من سلامة المواصفات الفنية قبل البدء بالتشغيل، كما كان عليه ايقاف الوحدة لدى ظهور بوادر الخلل، لا أن يستمر في تشغيلها وبالتالي تعطلها وصدور الحكم بإعدامها! لذلك يمكن القول ان الاستنتاج، استناداً الى عجز موازنة المصفاتين، بعدم جدواهما الاقتصادية هو استنتاج غير محق. علماً بأن التقارير التي رفعها الفنيون في المصافتان في ذلك الحين كانت تؤكد صلاحيتهما للإنتاج وتحقيق بعض الأرباح. واليوم وبعد توقف المصفاتين طيلة اعوام أصبحتا خارج امكانية الإنتاج. ثانياً - في المقابل يطرح التقرير مسألة الإبقاء على الوضع السوقي على ما هو عليه مشاركة في تأمين المشتقات النفطية بين القطاع العام والقطاع الخاص، بحيث يُخصص حصراً للدولة تأمين أي استيراد بعض المواد وللشركات الخاصة بعضها الآخر، ولهذا الطرح حسنات وسيئات. ويقول التقرير ان الحسنات تنحصر بأمرين: أ - لا يحمّل الدولة العبء الإداري والتشغيلي. ب - يؤمن ديمومة الشركات الخاصة في نظام اقتصادي حر. والواقع أننا لا نفهم ماذا تعني عبارة "العبء الإداري والتشغيلي". فالوزارة وخلال الاعوام الماضية كانت تعتمد في ادارة صفقات الاستيراد على عدد قليل جداً من موظفي الوزارة ثلاثة أو أربعة موظفين، ولو استُخدم جهاز الوزارة كاملاً لأمكن توسيع دائرة الاستيراد وايجاد عمل للموظفين الذين يتقاضون رواتبهم من دون انتاج. أما العبء التشغيلي، وإذا كان المقصود به تمويل الاستيراد، فهو يعني ان تغطية قيمة الاعتمادات المستندية بواسطة المصرف المركزي تتم عادة في غضون 45 يوماً، أي بعد تصريف الكمية المستوردة في السوق المحلية واستيفاء أثمانها فوراً نظراً الى الطلب المستمر على المشتقات النفطية تأميناً للاستهلاك المحلي. وبالنسبة "لديمومة الشركات الخاصة في نظام اقتصادي حر" فهي أصلاً شركات توزيع ولديها شبكة من محطات البيع منتشرة في أنحاء البلاد 2100 محطة وتتقاضى حصتها المقررة في جدول تركيب الأسعار تتألف هذه الحصة من قسمين، نفقات الشركات والربح القانوني، وجرى دمجهما في وقت سابق خلافاً لنظام الصندوق المستقل ونظام التسعير الذي اقره مجلس الوزراء عام 1954، ولا بد من فصلهما مجدداً، حفاظاً على ديمومة الشركات علماً بأن تجميد الحصة حالياً يوقع بالشركات خسارة تقول انها توازي 40 سنتاً أميركياً في كل صفيحة بنزين. وتتلخص السيئات كما أوردها التقرير كالآتي: 1 - يحرم الدولة من أرباح تقدر بنحو 50 مليون دولار. 2 - يترك حرية التحكم بالسوق الى الشركات، احتكارات كبيرة. ولا يوضح التقرير كيف يمكن التوصل الى رقم ال50 مليون دولار علماً بأن قيام الدولة باستيراد المشتقات يؤمن لها أرباحاً طائلة استناداً الى نتائج الصفقات التي أجرتها الشركات الخاصة في الاعوام السابقة، وفي هذا المجال نذكر أن الوزير السابق شاهي برسوميان أقر في ندوة تلفزيونية أن هذه الأرباح تصل الى حدود 120 مليون دولار سنوياً. 3 - يحد من حركية التسعير لصالح الدولة ان أرادت. 4 - يهمش دور المنشآت في طرابلس والزهراني ويحتم بالتالي الغاءها. ويكفي كل من هذه السيئات، لاستبعاد هذا الطرح، لأن الطاقة النفطية هي المحرك الأساسي لعجلة الاقتصاد الوطني، وتشكل على المستوى الوطني كما ذكرنا 90 في المئة من مجمل الطاقة المستخدمة في البلاد، ولا يجوز بالتالي تخلي الدولة عن مسؤولياتها في هذا المجال وهي لا تقل أهمية عن القمح والطحين وهما مادتان حيويتان استراتيجياً ومعيشياً تحرص الدولة على استيرادهما مباشرة. واستطراداً في شأن التوظيفات الكبيرة من قبل الشركات، وأهمها المستودعات، فإن امتلاك شركات التوزيع مستودعات للمشتقات النفطية أمر لا بد منه لتأمين المرونة الضرورية لانتظام عملية التوزيع على شبكة المحطات، وهذا هو واقع الحال يوم كان عمل هذه الشركات مقتصراً على التوزيع دون الاستيراد مستودعات الدورة وهذا هو الحال لدى جميع شركات التوزيع في العالم. ثالثاً - في تطرقه الى المصافي يذكر التقرير ما يلي "وتواجد المصافي في لبنان له مبرره التاريخي في ضخ النفط الخام الى مصبي طرابلس والزهراني، من المملكة العربية السعودية ومن العراق، مما أوجب إيجاد هذه المصافي. فالغاية الأساسية كانت وصول النفط العربي من الداخل الى شواطىء البحر المتوسط". والواقع معكوس تماماً، فتواجد المصافي هو نتيجة وليس سبباً. - ان انشاء خطوط الأنابيب لنقل النفط الخام العربي من مواقع الإنتاج الى مرفأي التصدير هو عملية مستقلة تماماً ومنفصلة عن وجود المصافي أو عدمه، والغاية الأساسية هي تصريف النفط الخام وتصديره الى السوق الدولية. والدليل على ذلك أن شركة نفط العراق المحدودة بدأت تصدير النفط الخام العراقي من حقول امتيازها في العراق عام 1934، أي قبل انشاء مصفاة حديثة بعقدين تقريباً. وشركة التابلاين بدأت تصدر النفط الخام السعودي من مصب الزهراني عام 1950، أي قبل انشاء مصفاة شركة مدريكو بسنوات بدأت الإنتاج الفعلي عام 1955. - ان بناء المصافي عند مصبات النفط الخام هو نتيجة لوجود هذه المصبات بهدف تزويدها مباشرة بالنفط الخام بواسطة الأنابيب وليس بأي حال مبرراً لنقل النفط الخام من مسافات بعيدة. علماً أن ما يُصدر سنوياً من كميات يفوق كثيراً ما تحتاجه المصافي للتشغيل. ونذكر هنا أن شركتي نفط العراق والتابلاين كانتا تصدران سنوياً ما يزيد على 40 مليون طن من النفط في حين ان حاجة المصفاتين لم تكن تتجاوز 6،2 مليون طن في السنة. رابعاً - أورد التقرير المقطع الآتي: "ان رسم سياسة نفطية أمر حيوي للبنان بتوضيح الرؤية والمسار في تنفيذ الخطوات العملية. فكل خيار يحمل أو يجب أن يحمل في أبعاده مصلحة الدولة ومصلحة المواطن، وأن يأخذ في الاعتبار البعد الإقليمي لمنتجي ومصدري ومستهلكي هذه السلعة الاستراتيجية. ونحن على ضفاف بحيرة نفطية، بلد مستهلك وغير منتج، وواقعنا يُحتم علينا وضع اليد للتعاطي مع حركية السوق، استيراداً وانتاجاً، وفي كلا الأمرين يجب أن ننظر الى القطاع بشمولية القرار القومي لوقف الهدر الخ...". وانطلاقاً من هذه النظرة الشمولية للقرار القومي، نرى أن ما يحقق طموحات لبنان ومصلحته العليا الآنية والمستقبلية معاً، هو إقرار مبدأ وطني واستراتيجي لا محيد عنه يقضي بإنشاء مصفاة وطنية في منشآت طرابلس صوناً لاستقلالية الدولة في رسم وتنفيذ السياسة القومية في مجال الطاقة النفطية. من أجل ذلك يمكن اقتراح الآتي: أ - تأسيس شركة مختلطة بين الدولة والشركات الخاصة والأفراد، تحتفظ الدولة بنسبة 35 في المئة من الأسهم، وهي الحصة المانعة في لغة القانونيين التي تضمن للدولة عدم اتخاذ مجلس الإدارة أي قرار يتعارض مع مصلحة البلاد وأمنها الاستراتيجي. وفي هذا المجال لا تتحمل الدولة أي عبء مالي بل تساهم عينياً بالموقع والبنى التحتية. ب - الى أن يتم انشاء المصفاة وبدء انتاجها، تتولى الشركة المختلطة استيراد المشتقات النفطية حصرياً لتأمين حاجة البلاد وتُوزع الأرباح على الدولة والشركات والأفراد وفقاً لنسبة مساهمة كل طرف في الشركة. وفي هذه المرحلة الانتقالية يتحقق للدولة قسم من الأرباح وتتأمن ديمومة الشركات وبعض الأرباح للأفراد. ج - الا يتطلب رأس مال الشركة أن يكون موازياً لنفقات انشاء المصفاة بل يستخدم جزء منه للتأسيس واعداد الجدوى الاقتصادية والدراسات الفنية. وقد لا يتجاوز عشر نفقات الإنشاء. علماً بأن تأسيس المشاريع النفطية الكبيرة يُمول عادة بقروض ميسرة لآجال طويلة 10 سنوات أو 15 سنة وهي الطريقة المعتمدة من قبل الشركات النفطية العالمية. وتُسدد القروض وفوائدها من مبيعات المنتجات. وبالنسبة للشركة المختلطة المقترحة تُؤمن القروض بكفالة الدولة. د - ان انشاء المصفاة الوطنية في منشآت طرابلس يتميز بكونها تقع عند نهاية خط أنابيب النفط الممتدة من حمص والمرتبطة بحقول انتاج النفط الخام السوري، مما يؤمن تزويد المصفاة بشكل دائم بأقل كلفة ممكنة مقارنة بالاستيراد بواسطة ناقلات النفط. ه - هناك احتمال آخر، كما ورد في تقرير الوزير طرابلسي، إذ يمكن تأسيس شركة مختلطة بين الحكومتين اللبنانية والسورية بمشاركة القطاع الخاص والأفراد في كلا البلدين مما يندرج في اطار التكامل الاقتصادي بين البلدين الشقيقين. ولا شك أن من مصلحة سورية وجود مصفاة لبنانية قريبة من الحدود المشتركة، ومرتبطة بواسطة الأنابيب بمصفاة حمص ومصادر انتاج النفط الخام. وفي حال نشوب نزاع مسلح مع اسرائيل وتعرض المصافي السورية للقصف يمكن الاستعانة بنسبة من انتاج المصفاة لتكوين احتياط للقوات المسلحة السورية، كما حدث في حرب تشرين 1973 عندما قصفت الطائرات الإسرائيلية مصفاة حمص الوحيدة آنذاك، وعطلتها عن الإنتاج. وتم آنذاك تزويد القوات السورية المقاتلة على الجبهة بنحو 180 ألف طن من الوقود. و - ليس هناك بلد في العالم لا يملك مصفاة وطنية لتكرير النفط وتأمين الاستهلاك المحلي على الأقل. لا بد أخيراً من الإشارة، تعقيباً على ما ورد في التقرير من أن لبنان بلد غير منتج للنفط الخام، إلا أن هناك احتمالات قوية للعثور على النفط الخام خصوصاً في المياه الإقليمية. والدليل على ذلك اقدام بعض الشركات الدولية على طلب الترخيص، عامي 1973 و1974، بالتنقيب عن النفط في المياه الإقليمية، نذكر منها شركة "توتال" الفرنسية وشركة "أجيب" الإيطالية بالتعاون مع شركات دولية أخرى. وذلك استناداً الى دراسة الدكتور زياد بيضون التي نشرها عام 1972 في مؤتمر البترول العربي في مدينة الجزائر، كذلك الدراسة التي أعدها الدكتور غسان قانصو وأعلنها في محاضرة ألقاها في نادي المهندسين أوائل السبعينات. وتشير الدراستان الى وجود مكامن صالحة لخزن النفط سواء في المياه الإقليمية أو في بعض المناطق البرية. كما أن محاولة أخرى جدية جرت صيف عام 1975 لاستدراج عروض الشركات الدولية، وأعدت وزارة الصناعة والنفط آنذاك بالتعاون مع أحد الخبراء المصريين كامل الترتيبات القانونية والفنية. وتم بالفعل دعوة 56 شركة عالمية لتقديم عروضها، الا أن استئناف العمليات العسكرية حال دون متابعة الموضوع. لذلك وفي ضوء كل ما تقدم، لا بد من الإبقاء على وزارة النفط كوحدة قائمة بذاتها وعدم دمجها بأي وزارة أخرى، مع تفعيل دور لجنة الطاقة وتأسيس مؤسسة عامة للنفط والمعادن تتولى الإشراف على عمليات التنقيب عن النفط والمعادن كما تشرف في ما بعد على الإنتاج المحلي في المصفاة الوطنية. *الرئيس السابق لدائرة المحروقات في وزارة النفط اللبنانية.