في عددها لشهر أيلول (سبتمبر) الجاري، استعادت مجلة «الهلال» القاهرية لحظة صدورها في الشهر نفسه من عام 1892. استعادة لا إعادة بالطبع، نظرة بانورامية إلى تلك الفترة، ثم القفز إلى المصائر مع بداية عامها الرابع والعشرين بعد المئة. تستعرض «الهلال» ظواهر فكرية وحضارية وثقافية، معيدة النظر في بضع مسلمات. يكتب رئيس تحرير المجلة الروائي سعد القرش تحت عنوان «جرجي زيدان... المغامر» عن سياق نازف غادر فيه جرجي زيدان لبنان تحت سطوة الاحتلال العثماني، وكيف احتضنته مصر. لكن الفرق بين البلدين أن مصر، في أسوأ الأحوال، تحتفظ بمفهوم «الدولة»، وهذا اختيار له تبعاته ومساوئه في عدم تشجيع روح المغامرة الفردية. كان زيدان ثمرة «العقل الشامي»، إذا جاز الوصف. هو عقل طليق يؤمن بأن «أرض الله واسعة»، ولا يميل إلى التباكي على فرص ضائعة والتواكل وأوهام الاستقرار البليد، هذه من سمات «العقل الزراعي» المستكين في خوفه من عواقب المغامرة. لا تقتصر المغامرة على السفر، والاشتباك الحضاري مع عوالم جديدة، لهذا كان أدباء المهجر، وغيرهم ممن منحوا أنفسهم حق التجربة وتفاعلوا مع العالم الرحيب، أكثر جرأة على التجديد، وتفجير اللغة، وطرح اشتقاقات صارت تراثاً عاماً نسينا أصحابه. وتحت عنوان «ظاهرة المثقف اللبناني في مصر» يكتب خالد زيادة عن آثار اللبنانيين في المجالات الثقافية والفكرية، وهي ما زالت قائمة، فإضافة إلى المجلات والصحف التي أسسها لبنانيون، والتي ما زالت تصدر حتى الآن مثل «الهلال»، و«الأهرام» التي أسسها الأخوان تقلا، و«روز اليوسف» التي أسستها فاطمة اليوسف، فإن لبنانيين آخرين كان لهم أثرهم في تكوين الاتجاهات الفكرية أمثال الليبرالي فرح أنطون والإصلاحي رشيد رضا والعلماني التطوري شبلي شميل، والشاعر خليل مطران والأديبة مي زيادة. ومن القدس يكتب تحسين يقين عن «فلسطين الشامية العربية العثمانية... هكذا كانت»، كما يكتب الروائي التونسي تحت عنوان «تونس سنة 1892... صراع على الهوية بعد 11 عاماً على الاحتلال الفرنسي» مستعرضاً المشهد النضالي المبكر للتونسيين ضد الاحتلال. وبحكم اهتمامه بالفنون يكتب الشاعر العراقي شاكر لعيبي عن الإخراج الفني في الأعداد الأولى ل «الهلال»، وكيف كان استخدام الصورة، ويقدم نبيل حنفي محمود صورة لواقع الموسيقى والغناء الذي أسس لانطلاق مدرسة سيد درويش، وعلى النهج نفسه يكتب عمرو دوارة عن المشهد المسرحي المصري، العربي بالضرورة. في العدد دراستان غير مسبوقتين، درس في جدية استخدام مناهج البحث العلمي في الاستدلال والتوصل إلى نتائج عبر تقصي أجزاء من الصورة للتوصل إلى المشهد العام: الأولى للشاعر أسامة عفيفي عن واقع الفنون الجميلة في مصر في نهاية القرن التاسع عشر، قبل سنوات من تأسيس مدرسة الفنون الجميلة 1908، والثانية للباحثة شذى يحيى عن مشاركة مصر في معرض «إكسبو شيكاغو»، وكيف نجح مصرفي تركي من أصل يوناني في تنظيم جناح مصر الذي أصبح منصة لبعد آخر للاستشراق من زاوية الرقص الشرقي. في «القضايا»، يطرح محمد عفيفي أسئلة جديدة عن الثورة العرابية، كما يتساءل محمود الورداني: من يخاف الإسلام السياسي؟ ومن الماضي إلى الحاضر، يتساءل سمير فريد عن ضرورة الإبقاء على وزارة الثقافة المصرية بعد انتفاء الحاجة إلى وجودها، ويطرح البديل. أما الشاعر علي عفيفي فيقدم اقتراحاً «لمن يريد اسئجار غرفة في الوزارة نفسها». في الفنون يكتب أحمد البكري عن ثنائية أحمد رامي ورياض السنباطي، ويكتب محمود الحلواني عن عرض «ليلة من ألف ليلة». وفي العدد نفسه نص نادر للزعيم محمد فريد، كتبه بلغة تفيض ألماً وعذوبة، عن زيارته الجزائر عام 1901.