في المؤتمر الذي دعت اليه "المنظمة العالمية لاستعادة الحقوق اليهودية" في أواخر العام الفائت، أعلن المندوب الرسمي الاسرائيلي ان حكومته تعتبر ان "الدولة الاسرائيلية، الدولة اليهودية هي الممثل المركزي والرئيسي لضحايا وللناجين من الهولوكوست ولورثتهم وانها سوف تبذل قصارى جهدها من أجل حصولهم على حقوقهم الشرعية". تأكيداً لمسؤولية اسرائيل في متابعة قضية ضحايا المحرقة والناجين من جرائم النازية، أشار المندوب الاسرائيلي الى انه بعد الحرب العالمية الثانية ذهبت كثرة الناجين من الهولوكوست الى فلسطين لكي يتحولوا الى سدس سكان اسرائيل من اليهود، الى جانب الموقف الذي اتخذه مندوب اسرائيل في المؤتمر وجه بينيامين نتانياهو، رئيس الحكومة الاسرائيلي السابق، رسالة الى رئيس المنظمة أعرب فيها عن دعم اسرائيل لنشاط المنظمة ولحملة التعويض عن اليهود. كذلك شكلت الحكومة الاسرائيلية السابقة لجنة وزارية لكي تضع خطة من أجل تحصيل التعويضات من الدول والجهات الدولية التي تعرض فيها اليهود للاضطهاد واستبيحت فيها ارواحهم وممتلكاتهم. ولما احال قاض فرنسي قضية الويس برينر، الذي عمل خلال الحرب العالمية الثانية كسكرتير شخصي لرئيس الجستابو ادولف ايخمان، قامت السلطات الاسرائيلية بتقديم معلومات كثيرة عن المسؤول النازي السابق الى السلطات الفرنسية. وفي هذه المعلومات أكد الاسرائيليون ان برينر يعيش حالياً في سوريا تحت اسم جورج فيشر، وانه من السهل التعرف عليه بسبب اصابته بجراح في وجهه وفقدانه عدة أصابع بعد ان انفجرت فيه رسالتان ملغومتان. وتتوقع الأوساط الدولية التي تتابع قضية برينر ان تبدي اسرائيل اهتماماً أكبر بهذه المسألة عندما تبدأ محاكمة برينر بحيث يمكن تحويلها، في تقدير الاسرائيليين الى مناسبة لاحراج دمشق دولياً، والى وسيلة لاضعاف موقعها التفاوضي في سياق "محادثات السلام" بين الطرفين. وعندما عرف ان الفاتيكان ينوي تطويب البابا بيوس الثاني عشر "لأن حياته تميزت بممارسة الفضيلة البطولية"، سارعت اسرائيل الى القيام بحملة بقصد عرقلة هذا القرار الكنسي. فالبابا بيوس متهم بأنه كان معادياً للسامية. ولقد تجددت هذه الاتهامات مؤخراً مع صدور كتاب "بابا هتلر: التاريخ السري للبابا بيوس الثاني عشر". ويقدم الكتاب بعض الأدلة على معاداة السامية منها بعض الاشارات المسيئة الى اليهود التي جاءت في رسائل بعث بها الى أقرانه وأصدقائه قبل ان يصبح زعيماً للكنيسة الكاثوليكية. الا ان السبب الرئيسي لاتهامه بمعاداة السامية هو اقدامه، باعتباره سفيراً للفاتيكان الى برلين، على توقيع معاهدة مع هتلر عام 1933، ولأنه سكت عن حملات التنكيل والابادة التي مارسها النازيون ضد اليهود، كما يقول ناقدوه الاسرائيليون. ولا يقبل هؤلاء النقاد رد الكنيسة حول هذه المسألة عندما تقول بأن قدرة الفاتيكان على التأثير على الأحداث الأوروبية عموماً والألمانية خصوصاً كانت محدودة، وان بيوس الثاني عشر قام بالافادة من الموقف الحيادي الذي وقفه الفاتيكان خلال الحرب العالمية الثانية لانقاذ الاوروبيين، من المسيحيين واليهود، من بطش النازيين. ففي اعتقاد الناقدين الاسرائيليين انه كان باستطاعة الفاتيكان بما يملك من مكانة دولية ومعنوية القيام بحملة عالمية تحول دون وقوع المحرقة واعمال التنكيل ضد اليهود. وبتأثير من هذا الاعتقاد تزداد الحملة ضد بيوس الثاني عشر حدة وقوة الى حد التدخل في شؤون الكنيسة الداخلية، فمنذ أيام قليلة قدم ارون لوبيز، سفير اسرائيل الى الفاتيكان، اقتراحاً الى الكنيسة الكاثوليكية بتجميد مشروع التطويب لمدة خمسين عاماً. الانطباع الذي تتركه هذه المواقف هو ان اسرائيل هي الأساس في الحملة العالمية للاقتصاص من النازيين الذين نكلوا باليهود، أو من المتهمين بالتهاون مع النازية أو السكوت عنها، وانها هي المؤتمن على حقوق ضحايا النازية وورثتهم. وهذا الانطباع ينسحب، استطراداً على المنظمات الصهيونية. فهذه المنظمات تصور وكأنها، ليس راهنياً فحسب، وانما تاريخياً ايضاً، وكأنها هي الطرف الأول في عملية الصراع بين اليهود، من جهة، وبين النازية، من جهة اخرى. ولقد ساهمت بعض الحكومات الاوروبية والأطراف الدولية في تكريس هذا الانطباع. فعندما طالبت الحكومة الاسرائيلية بزعامة بن غوريون في الخمسينات الحكومة الألمانية بتقديم تعويضات الى اسرائيل عما ارتكبه النازيون من جرائم تاريخية ضد اليهود، سارعت حكومة المستشار الالماني ايدناور الى الاستجابة الى هذه الرغبة معتبرة الكيان العبري الوريث الطبيعي لهؤلاء اليهود. ولما اراد ملك اسبانيا، خوان كارلوس، تقديم اعتذار تاريخي الى ضحايا محاكم التفتيش الاسبانية من اليهود، حرصت الحكومة الاسبانية على حضور رئيس الكيان العبري الأسبق حاييم هرتزوغ تلك المناسبة. وعندما تسعى الحكومات الاوروبية التي نكلت باليهود في السابق، خاصة في اوروبا الشرقية، الى مصالحة اليهود والاعراب عن ندمها وأسفها للسياسة التي اتبعتها سابقاً ضد أتباع الدين اليهودي، فانها تتصرف وكأن الموقف من اسرائيل والصهيونية هو محك فعل الندامة هذا. ولكن هل تعكس هذه الانطباعات والمواقف، بدقة، موقف اسرائيل والحركة الصهيونية، راهنيا وتاريخياً من قضية التعويضات واسترداد الحقوق المسلوبة من اليهود الاوروبيين؟ أصحيح ان اسرائيل هي الممثل لهؤلاء اليهود؟ وهل تضع اسرائيل التعويض عن هؤلاء اليهود وورثتهم، مادياً ومعنوياً بين اولوياتها؟ هل اضطلعت المنظمات الصهيونية خلال فترة الثلاثينات والاربعينات بالدور الرئيسي بين اليهود في محاربة النازية؟ هذه الأسئلة هي موضع جدل وملاحظات تسوقها بعض القيادات اليهودية غير الاسرائيلية التي تلاحظ ان السلطات الاسرائيلية تتبع سياسة مزدوجة على هذا الصعيد. فبينما هي تعتبر نفسها، كما أعلنت في مؤتمر واشنطن، انها المعني الرئيسي بحملة التعويض على اليهود والاقتصاص من الذين مارسوا أعمال الابادة الدينية والاثنية ضدهم، فان مواقفها العملية تجاه هذه الحملة تتسم بالفتور والتحفظ. فعندما اشتدت الحملة اليهودية ضد المصارف السويسرية التي اتهمت بالاستحواذ على أموال اليهود وودائعهم خلال الحرب العالمية الثانية، سعت حكومة نتاتياهو الى اقناع الحكومة السويسرية بأنها ليست شريكاً فاعلاً في هذه الحملة. وخلال زيارة ايهود باراك الى المانيا، صيف هذا العام وذلك باعتباره اول زعيم أجنبي يزور برلين بعد ان أصبحت، مجدداً، عاصمة الدولة الألمانية، تحدث الى المستشار الألماني غيرهارد شرودر بصدد مسألة التعويضات عن ضحايا المرحلة النازية، فوعده الأخير بان حكومته ستبذل كل جهد حتى ينال ورثة الضحايا والناجون من المحرقة حقوقهم الكاملة وفقاً لما تقتضيه الاعتبارات القانونية والاخلاقية. إلا ان هذه المسألة لم تكن محور محادثات باراك - شرودر، ولا محور الاتصالات التي أجراها باراك في المانيا كما مل بعض المعنيين بقضية التعويض عن ضحايا النازية. هذه المفارقة أثارت الاستفسارات في اسرائيل وخارجها، مما دعا بعض المعنيين بحملات التعويض الى توجيه انتقاد صريح الى السلطات الاسرائيلية معتبراً انها لا تقوم بواجبها على هذا الصعيد كما فعل، على سبيل المثال، بيرت نيوبرن وهو واحد من المحامين الرئيسيين الذين يضطلعون بالدفاع عن حقوق ورثة ضحايا النازية. كما ان صحيفة "جيروزاليم بوست" أثارت هذه المسألة مع عدد من موظفي وزارة الخارجية الاسرائيلية والديبلوماسيين الاسرائيليين الحاليين والسابقين، فكانت حصيلة هذه الاستقصاءات ان الحكومة الاسرائيلية ترى، رغم الموقف الذي اتخذته في واشنطن في نهاية العام الفائت، بأن هناك فرقاً بين الأجندة الاسرائيلية وبين أجندة المنظمات التي تطالب بالتعويض عن ضحايا النازيين. وأنه قد يحدث تقاطع هنا وهناك بين المصلحتين، فتلقي اسرائيل بثقلها الى جانب هؤلاء، ولكن فيما عدا ذلك فانها تفضل الا تتوغل في مساندة حملات التعويض، وهو أمر يسبب احراجاً للحكومة الاسرائيلية في علاقتها مع بعض الدول التي تستهدفها الحملات. ان هذا التناقض ليس غريباً في العلاقات الدولية بين السياسة التي يتبعها كيان يعتبر نفسه ممثلاً لحركة تاريخية ودولية وبين السياسات والمواقف التي تتبعها تلك الحركات. فالاتحاد السوفياتي، مثلاً، لم يكن يتبنى دوماً مواقف وسياسات الشيوعية الدولية. ولكن هل ان هذا الفارق بين موقف السلطات الاسرائيلية، من جهة، وموقف الجماعات اليهودية التي تطالب بالتعويض عن ضحايا النازية هو مجرد فصل من فصول هذه العلاقة المركبة بين كيان يعتبر نفسه ركيزة لحركة دولية، من جهة، وبين تلك الحركة الدولية، من جهة اخرى. هذا ما سنبحثه في مقالين لاحقين. * كاتب وباحث لبناني