لبوليفيا في أذهاننا صورة من الغرابة تتمثلها مخيلتنا كبحر تغشاه الأمواج: السكون، النسيان الديموقراطي، الثورات السياسية، الدكتاتوريات، النمو الديموغرافي، الثروات الطبيعية والفقر. ولهذا التصور ما يبرره، فالتناقضات الصارخة التي يعرفها هذا البلد هي التي تجعل هذه اللوحة المرسومة امامنا حية وأقرب الى الواقع. 70 في المئة من سكان بوليفيا من اصل هندي احمر يعيشون فوق مرتفعات علوها 4000 متر. ولأسباب مختلفة ينزح هؤلاء الهنود من مواطنهم الأصلية الى المدن حيث يواجهون الخوف، وعنصرية الانسان الابيض والملون على السواء. تحت قناع وهم التأقلم مع العالم الجديد، يضطرون الى اخفاء هوياتهم، واخفاء لكنتهم الريفية، والتخلي عن اسمائهم وتغيير ملابسهم لكي يستطيعوا الحياة في زحمة متاهة المدن التي لجأوا اليها. فالشروط القاسية التي يمليها المحيط الجديد، كالتنازل عن عزة النفس، والثقافة والهوية، تجعل الرابطة الأسرية مجرد مسألة عابرة تفككها رهن بعامل الزمن. غالباً ما تدفع الخيبة بالآباء الى الانزلاق في دوامة الكحول والعنف مما يدفع بالاطفال الى الشارع الذي يجدون فيه مكاناً بديلاً للعيش على رغم الاستغلال، والعهر والبرد، والمخدرات والحقد وعدم التفهم وعدم الاكتراث من المجتمع. ظاهرة اطفال الشارع هذه المتفشية في كثير من دول العالم الثالث بشكل لافت للنظر في اكثر دول اميركا اللاتينية، دفعت سنة 1989 المتطوع والمربي الاجتماعي والمسرحي السويسري شتيفان غورتنر الى انشاء المسكن الجماعي في مدينة El Alto- La Paz لايواء اطفال الشارع. وهو مشروع يعتمد مناهج تكوينية وتربوية بديلة. اصبح يعرف في ما بعد سنة 1997 باسم Tres Soles "الشموس الثلاثة". كمنظمة دينية وسياسية مستقلة داخل هذه المؤسسة تكونت سنة 1990 فرقة اطفال الشارع المسرحية Ojo Morado "العين الزرقاء". يرجع هذا الاسم الى حادث الشجار الذي حصل بين اعضائها، اطفال الشارع، اثر خلافهم في تسمية الفرقة. وتم باللكمات وعيون زرقاء. استهلت الفرقة مسيرتها تحت اشراف السويسري "شتيفان غوتنر" بتقديم عروض قصيرة، داخل المؤسسة، بمواضيع اقرب ما تكون الى الواقع الاجتماعي البوليفي. بعد ذلك توجهت بعروضها الى قاعات المدارس، وجمعيات القساوسة والجمعيات الثقافية. سنة 1995 قدمت نفسها الى الجمهور الواسع بعمل "الأمير الصغير" للكاتب الفرنسي Antoine de Saint-exupery انطوان دو سانت - اسكوبري الذي حققت به نجاحاً كبيراً في بوليفيا، ما جعلها تستدعى سنة 1998 القيام بجولة مسرحية في الارجنتين والتشيلي. فرقة "العين الزرقاء" تجول الآن في دول من اوروبا قدمت خلالها مسرحيتها "اطفال الحملة الصليبية". وهو عمل ممسرح عن قصيدة الكاتب الألماني برتولد برشت "بالعنوان نفسه" وكان عرض افتتاحه في العاصمة البوليفية 1997. "في وقتنا الحاضر" يقول المخرج السويسري "لم تفقد الحكاية حداثتها ما دامت حرب الكبار، سواء كانت بالسلاح او من دونه، تدفع اليوم مثل السابق، ملايين الأطفال الى الشارع". فكرة المسرح التربوي، ليست جديدة، لكن فكرة ادراج المسرح كمفتاح محوري لبرنامج تكوين بديل للأطفال واليافعين الذين يعيشون في الشارع، هي من دون شك فكرة غير عادية. التكوين التربوي في هذه التجربة الجديدة ليس المقصود به التوجه الى الجمهور من اجل تقليص الهوة الفاصلة بين اطفال الشارع الذين يحيون على الهامش اليومي والمجتمع. وكذلك توفير فرصة اللقاء المباشر بينهم وافراد هذا المجتمع، ولكن قبل كل شيء، توفير امكان احتكاك الممثلين انفسهم بقضاياهم الذاتية. "انهم يتعلمون الأسس الجوهرية للعمل المسرحي مثل الشعور بالمسؤولية، احترام وضبط المواعيد، والخيال والخلق والالتزام والارتجال والوعي بالعمل الجمعوي، والثقة في النفس والتركيز والاحساس بالهوية الجماعية. وذلك ليتكون هؤلاء الاطفال والشباب في اطار هذه المشاعر وليعملوا بشكل واعد وحازم في كل النشاطات التي يتطلبها العمل المسرحي. ان مجال تكوين الممثلين والعاملين في مجموعة "العين الزرقاء" لأطفال الشارع، لا يقف عند هذه الحدود التربوية الاخلاقية، بل يتعداها الى مجالات عملية اكثر، كتعلم القراءة النقدية للنصوص، اعداد مادتها جماعياً للعمل، اقتناء حاجيات العرض المطلوبة، وضع تصاميم الديكورات، صنع الملابس والأقنعة، الاستعدادات الجسدية وما الى ذلك من تثبيت الكاشفات الضوئية، التدريب، الخشبة ومناقشة مستوى العروض. الى جانب الدور الأساسي الذي لعبه المسرح ضمن البرنامج التكويني "الشموس الثلاثة"، تمت منهجة خطتين متلازمتين: الكفاءة التربوية المواكبة والمشاركة الديموقراطية في القرارات المتعلقة بحياة الجماعة. حاول المشروع التربوي تأسيس نظريته على الاستفادة من حياة الاطفال في الشارع، كحزء غير رسمي له سلبياته، وايجابياته، والعمل على تنمية القوة الداخلية اعتماداً على هذا الجانب من الايجابيات، كصلابة التحمل الجسدي والنفسي والتواضع والاخلاص والتضامن من اجل بناء مشروع للحياة من دون اللجوء لمساعدة هؤلاء الاطفال والشباب، الى اية احلام علاجية او جلسات طبية نفسانية او الايحاء اليهم بالانسلاخ من السلوكيات الضارة التي عرفوها في حياتهم. لذلك ليس ثمة حديث في هذا المشروع عن "رد الاعتبار" او عن "اعادة الاندماج الاجتماعي"، وانما عن "التكوين". "اننا نبحث عن امكانات جديدة للتكوين بدل اتباع منهاج تكريس تكوين مهني رسمي لن يجدوا فيه في المستقبل عملاً. فكل النشاطات الانسانية هي "مهن" بمعنى الكلمة شرط ان تؤخذ بجد وتمارس بجد. فالعمل المسرحي يتطلب داخل المجموعة التعاضد ويختزن علاوة على ذلك امكان التفاهم بين مختلف طبقات المجتمع".