اصرار أميركا على تمرير القرار 1284 في الذكرى الأولى لعملية "ثعلب الصحراء" كان رسالة الى العراق، فحواها أن لا خيار امامه سوى الرضوخ مهما رفض وندد ونظم التظاهرات والاستنفارات. أما ما قاله وزير الخارجية المصري عمرو موسى عن حتمية "التعامل بجدية" مع قرارات مجلس الأمن، فليس سوى صيغة مهذبة لاقناع بغداد بعبثية الرهان على خيارات خاسرة سلفاً، بل مدمرة. وكان واضحاً منذ انكشفت "صفقة الشيشان"، أن موسكو "عاجزة" عن استخدام الفيتو في المجلس لمصلحة العراق، مثلما امتنع الغرب عن الذهاب الى ما هو ابعد من التنديد بوحشية قتل اهالي الشيشان. بالتالي بقيت المعادلة ثنائية: أمن الخليج بما فيه ملف العراق مسألة لا تُبت بالشكل الذي يغضب واشنطن، وما يدعيه الروس عن أمن القوقاز يبقى في يد الكرملين وحده. رفض بغداد القرار الأميركي - البريطاني كان معلناً منذ أشهر، والمفاجئ أن تقبل بنوده وآليته التي تعمدت واشنطن صوغها بغموض كي تبقى العبارة "السحرية" نهاية نفق العقوبات، معادلة اميركية بحتة. ولا أحد يشكك في قدرة ادارة كلينتون على فرض تطبيق القرار 1284 ولو بالقوة، مهما استبعدت الخيار العسكري مرحليا. فالمواجهة مؤجلة الى ما بعد تعيين رئيس للجنة الجديدة التي سترث "أونسكوم"، أما احتمالات انتفاضة الشارع العربي تضامناً مع العراقيين فآخر شيء يخيف الولاياتالمتحدة في ظل المتغيرات المتسارعة في المنطقة. اكثر من ذلك، تدرك بغداد ان كلينتون لا يتسلح هذه المرة بقرار دولي ولِد تحت وطأة المساومات، ولا بقوة البوارج والصواريخ فحسب، بل أيضاً بإنجاز ضخم في الشرق الاوسط حيث استطاع استعادة صدقية لديبلوماسيته بدفع قطار السلام بقوة بين سورية واسرائيل. ويمكن في هذه الحال تخيّل ما سيجنيه العراق اذا وضع في حساباته ضغطاً عربياً للجم أي عملية تستنسخ "ثعلب الصحراء". واضح مغزى اعتراف الفرنسيين بترجيح تكثيف الضربات العسكرية الأميركية - البريطانية إذا اصرت بغداد على رفض عودة المفتشين، مثلما هي واضحة قدرة باريس و موسكو على منع هذه الضربات أو وقفها. لا يعني كل ذلك ان ليس من حق القيادة العراقية الرفض والاحتجاج، لكن السؤال الذي يُطرح مجدداً يبقى محوره بديلاً واقعياً يخفف معاناة الشعب العراقي ولو ظلت نهاية النفق بعيدة... في واشنطن، بافتراض ان الهمّ الأول لدى الرئيس صدام حسين هو رفع تلك المعاناة، ومع التسليم ايضاً بالحسابات الأميركية الكامنة وراء تبني مجلس الأمن القرار المطاط. ولن يغيّر الوقائع تلويح طارق عزيز بتحمل نتائج رفض "التعسف" والوصاية على كل العائدات النفطية واحتكار الولاياتالمتحدة تحديد مقاييس التعاون مع المفتشين، لكن العراق يمكنه هذه المرة اختبار جدية الدول الأخرى الكبرى في ضمان حياد رئيس لجنة مراقبة التسلح وابقائه تحت اشراف الأمين العام للأمم المتحدة، للحؤول دون عودة "الجواسيس". بذلك تفتح نافذة صغيرة على النفق بدل الاستمرار في تحدي القرارات السيئة ثم قبولها بعد دفع المزيد من اثمان المواجهات الجنونية وترك الشعب العراقي وحيداً في مواجهة العضلات الأميركية. صحيح ان امتناع روسيا وفرنسا والصين عن التصويت في مجلس الأمن كرس انقساماً حيال آلية تعليق العقوبات، انما الأكيد ايضاً هو اجماع الدول الكبرى في المجلس على عودة المفتشين الى بغداد. ويكفي استمرار فرض منطقتي الحظر الجوي من دون تفويض من المجلس- وعلى رغم "غضب" موسكو وامتعاض باريس- للدلالة على استحالة تجيير العراق انقسام الكبار لمصلحته.