يستعيد الفنان الفلسطيني كمال بلاّطة الجملة الشهيرة التي قالها غاليليو غاليلي، عالم الفلك الايطالي، "ولكن تتحرّك" كي يؤكّد في معرضه الجديد بأن الصورة وتاريخها لن ينتهيا وأن علاقة الإنسان مع الصورة مستمرة في عصر أعلنت فيه نهاية الفن. يقول: "مع بداية هذاالعصر، أعلن عدد كبير من الفنانين ومن الحركات الفنية، نهاية الفن، من الدادئيين الى السورياليين وحتى الأشخاص الذين كتبوا عن التكعيبية. كل الحركات الفنية التي حصلت أعلنت موت الفن. ومع نهاية هذاالقرن، توجد مدارس عدة في العالم الغربي وفي العالم الفني، في اليابان وفي أميركا، تقول بأنه لم يعد هناك فنّ". في لوحاته الحديثة المعروفة في صالة "كلود لومان" في باريس لغاية 11 كانون الاول ديسمبر المقبل، استخدم بلاّطة كلام غاليليو الذي قاله عندما نوقش في مطلع القرن السابع عشر في موضوع الأرض، إن كانت تتحرّك أو لا تتحرّك، مؤكداً أنها على رغم كل شيء "تتحرّك"، كي ينجز مواضيع تشكيلية وإنشاءات مختلفة من أجل تفسير معنى الصورة. والصورة عنده صُنعت في معظمها داخل الحجم المربّع، وفي أحجام مختلفة تداخلت المربّعات فيها وكأنها لم توجد هنا كي تخلق حركة. فما هي المربّعات بالنسبة له؟ يفسّر بلاطة: "في التاريخ القديم، كان المربّع في منطقتنا يرمز الى الأرض في حين كانت الدائرة ترمز الى السماء. والجمع ما بين المربّع والدائرة كان دائماً يرمز الى العلاقة بين ما هو سماوي وما هو أرضي، وأصبح لتحرّك المربّع داخل المربّع، في زوايا مختلفة، علاقة بهذا المعنى. ففي الأيقونة البيزنطية القديمة، وفي أيقونة "الضابط الكّل" خاصة التي هي أيقونة أساسية في تاريخ الأيقونة ومواضيعها يبرز هذا الشكل أي المربّعان المتداخلان داخل الدائرة. إنني آخذ هذا الرمز الذي هو رمز الأرض وحركته - فلا علاقة لي بالسماوي - وأحاول أن أرى إمكانات معنى الحركة وأحاول أن أربط معنى الحركة في معنى موت الفن كما يدّعون، وأقول أن الفن ما زال وأن الصورة ما زالت حيّة وما زالت تتحرّك". وكانت الأيقونات البيزنطية اتصاله الاول برسم الصور إذ كان عدد منها موضوعاً في "مشكاة عالية" في البيت المقدسي الفلسطيني الذي وُلد فيه، وكان المحيط الذي كبر فيه اتصاله الأوّل بالهندسة المعمارية: قباب ومآذن وأبراج الكنائس في القدس، قبّة كنيسة القيامة وقبّة كنيسة النسطاسيس وبرج كنيسة الصعود، وقبّة مسجد الصخرة الساطع... وهو يقول: "لم أكتشف هذه الأشياء في طفولتي بل عندما أبعدت جغرافياً عن بلدي. عندما كنت في القدس، لم يكن في إمكاني القول أنني أهتّم بفن الأيقونة أو بالفن الاسلامي لأنني خلال حياتي هناك كنت أنظر الى الغرب، وخلال حياتي في الغرب كنت أنظر الى الشرق. لكن هذا النوع من التصرّف متوسطّي جداً. حوض البحر الأبيض المتوسّط يشكّل مكان لقاء ما بين الثقافات والحضارات المختلفة، وأنا لا يمكنني أن أتحرّر ولا يمكنني أن أعبّر عن نفسي من دون أن أرى هذا اللقاء، هذا التقاطع بين الشرق والغرب، بين الخط الأفقي والخط العمودي. من ناحية عملية، لا علاقة لي بالتراث البيزنطي - الاسلامي ولكنني آخذ اللبّ الموجود فيه مثل الطائر الذي يرى سمكة في البحر فيهجم على البحر ويلتقط السمكة ويترك البحر كما هو. آخذ من هذا البحر ما يطعمني". ويضيف: "ليس في إمكاني أن أعيش من دون هذه العلاقة. أستعين بالأشياء الجوهرية والأساسية التي بُني عليها تراث مئات السنين، أعود إليها ،أنفض الغبار عنها، وأنظر اليها بطريقة جديدة". خلال السبعينات، كان بلاطة يرسم بلاطة الصور التمثيلية والتشخيصية التي كانت محاطة دائماً بكلام. وفي أواخر السبعينات راح يجعل من الكلام نفسه شكلاً هندسياً فاتخذ قاعدة الخط الكوفي المبنية على المربّع نقطة إنطلاق لرسمه. ومن بعد هذه المرحلة التي دامت حوالى عشر سنوات - حتى أواخر الثمانينات - بدأ يركّز على العلاقات الهندسية من دون الحروف، وعاد الى أصغر وحدة في هذا النوع من التشكيل الى أن تطوّر موضوع المربّع وتداخل المربّعات بعضها في بعض داخل إطار اللوحة المربّع. هل جاء هذا التطوّر نتيجة لتأثير المدرسة الاميركية، إذ ان الفنان سكن واشنطن مدّة 25 سنة؟ يجيب بلاّطة: "أعتقد أن الفنان الحيّ، لأنه حيّ، لا بدّ له أن يتأثّر بتيارات عدّة. لا شكّ أنه يوجد أثر من المدرسة الاميركية ولكن، في الوقت ذاته، هناك أثر من التراث البيزنطي ومن التراث الإسلامي. وعندما أعمل على موضوع حديث، أشعر بأن هذه العلاقة موجودة. عندما أتكلّم عن المربّع، أتكلّم عن أبجدية اللغة. كل عين تقرأ شيئا، فمن الممكن أن تقرأ عن شكل اللون فقط وأن تقرأ عين أخرى الشفافية بين لون ولون. وهناك أشخاص لا يرون إلا الشكل. إنني أرجو أن تقرأ العين عملاً في العلاقة مع اللوحة التي تجانبها تماما كما في بيت شعر قديم: هناك شطر نقرأه وقد يكون متكاملاً وحده ولكنه لا يتكامل فعلياً إلا مع الشطر الآخر. وأن يأتي زائر الى معرض هو أن يتمكّن من رؤية الشطر ومن إكتشاف الشطر الذي يرافقه، فعندما أضع أشياء تشكيلية مشابهة واحدة للأخرى. هذه العوامل المشابهة تساعد العين على أن ترى الاختلاف وأن تكتشف الاختلاف والشيء المشابه. من خلال السفر والدخول في الاختلاف والتشابه، أعتقد أن العين أو الادراك الحسّي في العين يمكنه التوصّل الى النتائج التي بُنيت عليها اللغة". ينبعث من لوحات بلاطة جوّ صفاء مريح، وكأن اللوحة وُلدت في مكان معزول وبعيد... يعلّق الفنان: "أعتقد أن تاريخ الفن في حوض البحرالابيض المتوسط، سواء كان تاريخ الفن البيزنطي أو تاريخ الفن الإسلامي، يحتوي على نوع عميق من الصفاء. أذكر أن ناقداً أميركياً أثار النقطة ذاتها معي يوماً، وسألني عن كيفية رسمي هذا الصفاء وأنا من بلاد فيها عنف وفيها ضرب وفيها دم. وتذكّرت وقتذاك المنمنمات الإسلامية. فإن نظرنا الى صور معركة أو الى صورة عنتر يقطع رأس عدّوه مثلا، نرى الرأس طائراً في الهواء ونرى تفاصيل الشاربين والعيون المغمضة والدم السائل. ولكننا نرى أيضاً التفاصيل الجميلة كالزهور المطرّزة على القميص... وكأن الإنسان الذي رسم تلك الصورة العنيفة كان يرسمها بصفاء هائل. أعتقد أن هذه هي لغتنا في التعبير البصري. فعندما أرسم شيئاً صافياً، لا أكون واعياً بهذا الأمر. صحيح أنني أختار أمكنة هادئة للعمل ذلك ان عالمنا ممتلىء بالضجيج، وبعد أن قضيت وقتاً في باريس كان الجنوب الفرنسي والبحر الأبيض المتوسط ملجأي". وإن كان للمكان أهمية في عمله، فهل تتحوّل اللوحة مع تحوّل المكان؟ يقول بلاّطة: "طبعاً. قضيت 25 سنة من حياتي في مدينة واشنطن وعندما قرّرت الخروج منها والاستقرار فيها، استغربت جداً كيف تمكنّت أن أعيش في مدينة هذا العمر الطويل. ولكن، بعد ذلك تذكّرت أن واشنطن هي من المدن القليلة في اميركا التي لا تحتوي على عمارات مرتفعة وحيث السماء دائماً حاضرة وحيث الضوء موجود. واشنطن تشكّل بداية الجنوب الاميركي والمدينة كلها بياض وشمس ومن أهمّ المدارس الفنيّة في العصر الحديث التي ظهرت في اميركا - "مدرسة الألوان" - ظهرت في واشنطن. عندما ذهبت الى المغرب، شعرت بالراحة ذاتها ولكنني افتقرت الى ذلك في باريس. وحالياً أعيش في قرية مانتون، في جنوبفرنسا، وكأن المكان الذي دائماً أجد إرتياحاً فيه هو المكان الذي فيه ضوء وفيه شمس، المكان الذي له علاقة بالمكان الذي وُلدت فيه". هكذا يطغى اللون على لوحاته فبعد العمل بلون أو لونين فقط خلال السبعينات، انتقل في اوائل الثمانينات الى التركيز على السلّم اللوني، ويفسّر: "بدأت أهتّم أيضا بنظريات الألوان في الحضارات المختلفة من القرون الوسطى حتى اليوم، وأصبحت أتابع عن كثب الإكتشافات الحديثة المتعلّقة باللون إذ رأيت أنّ ليس بإمكاني أن أكون رسّاماً للأشكال والألوان من دون أن أكون على صلة مباشرة بالعلم الذي يؤسّس هذه الأشياء، مثلما ما كان الإنطباعيون على علاقة مباشرة مع المكتشفات العلمية باللون ألا فكيف جاءت التكعيبية نتيجة نوع جديد من التفكير في رؤية الشكل من أكثر من جهة". وهذا الشكل الهندسي المجرّد الذي يركّز عليه، هل سيبتعد بلاّطة عنه قريباً كما كان ابتعاده عن التشخيص وعن الحروفية، ليعود الى شكل آخر في تعبيره الفنّي؟ يقول: "أعتقد أنه لما تحصل عودة عند أي إنسان في إحدى اللغات التي يعمل بها وفي احدى الصور، فيكون ذلك بسبب افراغه اللغة التي يتداول بها. وأحياناً، يشعر المرء بافراغ اللغة قبل ان تنتهي. أعتقد حالياً أنني في بداية الطريق وأنني لا أزال أسعى كي أبلور فيه أشياء هندسية. ليس هناك من صورة أنجزها وأشعر بأنها قالت كل ما أريد أن أقوله. وهذا الأمر يدفعني الى الشعور بأنني لا أزال في بداية الطريق. في اليوم الذي سأجد فيه بأن الصورة اكتملت تقريباً، سأبحث عن شيء آخر، ولكنني أستبعد ذلك في الوقت الحاضر".