خريف العام 1952، كان واحداً من الفصول الأولى التي تمر منذ تسلّم الضباط الأحرار الحكم في مصر، إثر ثورة تموز يوليو من العام نفسه وإطاحتهم الملك فاروق وإعلان الجمهورية. وكان ذلك الفصل بالغ الخطورة لأسباب عدة، لعل في مقدمها بدأ بروز الصراع بين العسكريين الثائرين، والطبقة السياسية التي كانت تشارك في حكم البلاد، موالاة ومعارضة، منذ عقود طويلة من السنين. وكما يحدث عادة في مثل هذه الظروف، نشأ الصراع عن سوء الفهم. فالسياسيون التقليديون والاصلاحيون والليبراليون كان خيل إليهم أول الأمر ان الجيش سيعود بسرعة إلى ثكناته بعد أن أنجز المهمة الأولى والأساسية التي جاء معلناً القيام بها: إحداث تغيير جذري في رأس السلطة. وكان الجيش نفسه قال في الأصل إنه سيعود إلى الثكنات ما ان ينتهي من انجاز تلك المهمة، وكان سارع إلى مد يد التعاون تجاه السياسيين فطلب من علي ماهر تشكيل الحكومة الأولى ثم شكّل مجلس وصاية من اعضائه رشاد مهنا... غير ان شهر العسل ذاك بين العسكريين والسياسيين سرعان ما تبخر، إذ رأى العسكريون ان الطبقة السياسية غير راغبة في التخلي عن امتيازاتها، ورأى السياسيون أن العسكريين قد استطابوا السلطة وباتوا غير راغبين في التخلي عنها. ولقد زاد من حدة ذلك كله ان الضباط الأحرار سرعان ما راحوا يصدرون قرارات جذرية تتعلق بالاصلاح الزراعي ومشروع بناء سد أسوان العالي، ولمصلحة الدعوة إلى الوحدة العربية، ناهيك بأن مسألة الابقاء على النظام البرلماني، التي كانت تعتبر من قبيل المسلّمات، صارت موضوع نقاش. وكذلك الحال مع مسألة الابقاء على نظام الحكم الملكي أو إلغائه لمصلحة إعلان مصر جمهورية. وهكذا، لئن كان علي ماهر قد أحدث تفجيراً أولياً في الموقف حين اعلن معارضته للاصلاح الزراعي، ولئن كان رشاد مهنا نحي عن مجلس الوصاية، فإن هذين الأمرين ظلا عند حدود قيمتهما المتوسطة، وظل شبه شهر عسل قائماً بين العسكريين وبعض الأحزاب ومن بينها حزب الوفد، وإلى حد ما الاخوان المسلمون. غير أن ما حدث يوم 10 كانون الأول ديسمبر من ذلك العام نفسه أحدث انقلاباً جذرياً حتى في العلاقة مع الحزبين الأخيرين. ما بدأ يعطي الصراع أشكالاً جديدة، وبدأ يفتح العيون على اتساعها على ما يمكن توقعه من نوايا العسكريين. ففي ذلك اليوم اعلن مجلس قيادة الثورة عن إلغاء دستور العام 1923، وهو الدستور نفسه الذي كان الشعب المصري بكافة طبقاته وأحزابه ناضل طويلاً لاستعادته بعدما كان الانكليز القوة في مرة أولى. وكانت حجة مجلس قيادة الثورة في ذلك أنه، بعدما بذل جهوداً طويلة في تلك السبيل، لم يتمكن من اقناع الأحزاب التي تمثل قطاعات من الشعب بتطبيق الاصلاح السياسي، واصلاح المؤسسات التي كان الجيش يرى أنه لا مستقبل للحياة السياسية في البلد من دون إحداث اصلاح جذري فيها. وكان مجلس قيادة الثورة طلب، خصوصاً، من حزب الوفد أن يحدث في داخل حياته الحزبية والنيابية اصلاحات تطهيرية تجعله جديراً بأن يمثل ما يمثله من قطاعات الشعب، عن جدارة، غير ان حزب الوفد تجاهل ذلك، وظل يخوض - حسبما سيقول المؤرخون المؤيدون لمجلس قيادة الثورة في ذلك الحين - الألعاب و"الالاعيب" السياسية كما لو ان ثورة لم تحدث في البلد. والحقيقة ان المؤشرات كلها تدل إلى أن مجلس قيادة الثورة لم يكن ينتظر أكثر من ذلك، ليتخذ من تقاعس الوفد واهماله ذريعة تمكنه من أن يوجه ضربة عنيفة إلى الطبقة السياسية ككل. وهكذا، ما انتهت "المهلة" التي اعطيت لحزب "الوفد" وكان عليه خلالها ان يصلح من شؤونه حتى أعلن عبدالناصر، باسم مجلس قيادة الثورة، ان "الثوار العسكريين" يجدون انفسهم مضطرين إلى قلب النظام كله رأساً على عقب. وكانت الضحية الأولى لذلك، الحياة النيابية والدستورية نفسها، حيث الغي الدستور كما أشرنا، كما تقرر إلغاء الانتخابات النيابية التي كان من المفترض، تبعاً لاعلان سابق، ان تجري خلال شهر شباط فبراير اللاحق. وفي المقابل أعلن جمال عبدالناصر ان القيادة الجديدة تحتاج إلى مهلة ثلاث سنوات قبل أن تؤسس هيئات تشريعية ودستورية جديدة، أي قبل ان تضع للبلاد دستوراً جديداً وتدعو الناس إلى الانتخابات النيابية. وكانت تلك ضربة لحزب "الوفد" تلتها ضربات بالتوازي مع ضربات وجهت إلى "الاخوان" وبقية السياسيين.