كان جان ايشينوز في السادسة والثلاثين عندما التقى صموئيل بيكيت في مكتب الناشر الشهير جيروم ليندون صاحب دار "مينوي" التي احتضنت "الرواية الجديدة" وأطلقت الأصوات الروائية الشابة والطليعية. كان اللقاء سريعاً وعابراً على عادة لقاءات رائد المسرح العبثي وكان ايشينوز حاز للتوّ جائزة "ميديسيس" 1983 عن روايته الثانية التي تحمل عنواناً غريباً هو: "شيروكي". غير ان "مجد" الجائزة لم يخفّف من وطأة الرهبة التي اعترت الكاتب الشاب حين وجد نفسه أمام هذا الكاتب "الرهيب" كما يصفه فأحس على ما يشبه الرعب والتهيّب معاً. و"حادثة" اللقاء هذه ظلّ يرويها ايشينوز على اصدقائه لا لينقل أعجاب بيكيت ب"الشاب الفائز" آنذاك كما باح به بيكيت الى الناشر وإنما ليؤكد ما يمارس عليه بيكيت من سحر وفتنة. فأثره واضح عليه سواء في لغته المتقطعة والمنسابة في الحين عينه أم في بعض الملامح "البيكتية" التي راح يسبغها على شخصياته العبثية والممزّقة والتي لا تعرف الركون أو الإقامة. كان جان ايشينوز يستحق جائزة "غونكور" للرواية قبل عامين ربما عندما اصدر روايته الرائعة "سنة واحدة" لكنه حازها قبل أيام عن روايته الجديدة "إنني راحل". ولعلّ فوز هذه الرواية يعني اولاً وآخراً فوز الرواية السابقة، فهما تتقاطعان خير تقاطع وتتشابهان في جوّهما وفي وأبعادهما الواحدة حتى كأن الأولى هي صورة الاخرى في مرآة الكاتب ومرايا الشخصيات العابثة والهاربة دوماً من واقعها المدمّر الى واقع أشدّ خراباً. وقد لا تكون الذريعة التي اعتمدتها لجنة الجائزة في اختيارها الرواية مقنعة تماماً أو هي تصف فقط ناحية من نواحي هذه الرواية الغريبة التي تجمع بين متناقضات اللعبة الروائية، بين المتعة واليأس، بين المغامرة والسقوط، بين الصخب والعزلة، بين الدهاء والجنون. فأن تكون الرواية "طريفة" في موضوعها و"سهلة القراءة" وحافلة ب"روح الفكاهة والدعابة" يعني ان تكون رواية شعبية وان تنتمي الى النمط الروائي الرائج والخالي من التجريب والتأمل والفن السردي الصرف. الا ان بيان الجائزة لحظ ايضاً ابتعاد الرواية عن "الكتابة الديماغوجية - الحديثة" من غير ان يوضح التباس هذه المقولة ملمّحاً الى خلو الرواية من أي بعد ايديولوجي أو سياسي وكذلك من الشكّ أو الظنّ و"الافتراء" الروائي. ولعلّ اللافت في رواية جان ايشينوز كما في معظم رواياته هو قدرتها على فرض قراءتين متوازيتين: قراءة روائية صرفة تجعلها رواية حافلة بالمغامرة والتشويق وقراءة رمزية تستبطن احوال الشخصيات المتأرجحة بين الحياة والموت، بين الواقع والعدم. قد تكتسب قراءة رواية "إنني راحل" على ضوء الرواية التي سبقتها "سنة واحدة" بعداً آخر بل قد تزيدها متعة إذ تغدو الثانية كأنها جواب على الأولى أو صورة معكوسة عنها. فالسنة التي أمضتها البطلة فيكتوار في الرواية الأولى تقارب السنة التي أمضاها فليكس فيرّيه بطل الرواية الجديدة. وكان فيلكس هو الرجل الذي تفارقه فيكتوار أو ترحل عنه وفي ظنّها انه فارق الحياة بل كانت على ثقة شديدة انه مات: "تستيقظ فيكتوار في صبيحة من صبيحات شباط من غير ان تتذكر شيئاً من الليلة الفائتة وإذ تكتشف فليكس ميتاً قربها في سريرهما توضّب حقيبتها قبل ان تمرّ بالمصرف وتستقل التاكسي متوجهة الى محطة مونبارناس". أما في الرواية الجديدة فان فليكس هو الذي سوف يرحل تاركاً امرأته في السرير مخاطباً إياها: "إنني راحل". لكن فيلكس الذي ظنته امرأته ميتاً في رواية "سنة واحدة" سوف يمنحه الكاتب اسم عائلة فيضحي اسمه الكامل فليكس فيرّيه. وعلى عكس فيكتوار سوف يرحل الى القطب الشمالي في مغامرة مجنونة كأنها واقعية ومتوهّمة في وقت واحد. وعندما سيعود بعد سنة ينقصها يومان الى بيته السابق يكتشف ان الوجوه تبدّلت تماماً ولا يبقى أمامه الا ان يتلفّظ ما قاله في مستهلّ الرواية: "إنني راحل". لكن مغامرة فيكتوار كانت مختلفة ظاهراً عن مغامرة فليكس: فهي ترحل وتصعد قطار نصف فارغ، تستأجر بيتاً صغيراً وفي أيامها الأولى لا تفعل شيئاً: تنام فقط بل تتمدد في سريرها: "ربما كانت تحاول ان تفكّر في حياتها، ولكن عبثاً وربما كانت تجهد عبثاً ايضاً في الا تفكر فيها". ولكنها بين ليلة وضحاها سوف تهيم في المدينة بين الباص والميترو وبين الفنادق لتنتهي من ثم في الشوارع. قد يكون فليكس فيرّيه هو قرينها في رواية "إنني راحل" وقد يمكن ان تسمّى "إنني ذاهب" تبعاً لما يعنيه حرفياً فعل "ذهب" بالفرنسية وهو يختلف عن فعل "رحل" الذي يستخدمه الكاتب في روايته أكير من مرة. لكن "الذهاب" ليس مجرد ذهاب أو خروج من المنزل بل هو رحيل لا الى القطب الشمالي فقط بل الى ما يقارب الموت ويشابهه. فالبطل الذي يستهويه الرحيل لا السفر الى القطب الشمالي سعياً وراء مغامرة مجنونة وخطرة كان مريضاً ونصحه طبيبه ان قلبه لا يحتمل مثل هذه "الأسفار" البعيدة. قد تكون المغامرة التي خاضها فليكس في الرحيل الى القطب البارد بحثاً عن السفينة الغارقة وكنزها القديم والباهر مغامرة روائية في كل ما تعنيه من تشويق ومتعة. فالكاتب راوٍ بامتياز، يسرد ويصف ويتابع تفاصيل المشاهد واللقطات. وهو يُعنى كثيراً بما يسمّى "توثيقاً" روائياً ولا يقبل على موضوع أو حقل الا بعد البحث والتنقيب. لكن المغامرة هنا يجب الا تقرأ عبر ظاهرها التشويقي كيلا أقول المسلّي ويجب ألا تنحصر ضمن الجغرايا الخارجية حتى وإن أعلن إيشينوز كتابته رواية جغرافية على غرار ما يكتب الآخرون من روايات تاريخية. فالجغرافيا هنا سرعان ما تستحيل عبر أعين الشخصيات الى جغرافيا داخلية أو نفسية. فالأمزجة والاحوال والأحاسيس التي تخالج الشخصيات تنعكس للفور على مرايا المساحات الخارجية، على صفحات الجغرافيا الشاسعة. وشخصيات ايشينوز أصلاً هي شخصيات "فيزيقية" كما قيل فيها ولكن تعاني آلاماً روحية. انها شخصيات ممزّقة جسداً وروحاً، شخصيات تعاني روحياً ولكن عبر أجسادها. لم يرحل فليكس إذن هرباً من امرأته بل من حياته الرتيبة والمشاركة جزء منها ومن ضجره الوجودي وخيبته الفنية التي جعلته "تاجراً" يملك صالة عرض ويهوى "سوق" الفن الحديث والطليعي بعدما حاول ان يكون رساماً وفشل.لكنّ هذا الفشل في الإبداع سوف يحوّله فليكس الى نجاح في المغامرة، في جعل الحياة مغامرة لا تنتهي. الفنان الفاشل ينقلب مغامراً جريئاً ينجح كل النجاح ولكن من غير ان يتمكن من تخطي خيبته الوجودية والقدرية. فهو إذ يعود من القطب الشمالي "منتصراً" لا يلبث ان يقع في متاهة الحياة "الواقعية" والمالية. وحين يعود الى البيت الذي رحل عنه يدرك للحين ان كل شيء انتهى فيعلن انه راحل ولكن للمرة الاخيرة. السارق يُسرق إذن والمغامر الذي خاض غمار القطب الشمالي يسقط وحيداً قانطاً وخائباً: "روحه تغصّ باحساس بالاختناق، بضيق شديد وموت وشيك. كان الألم يمزّق صدره، ينحدر من الحلق إلى أسفل العانة، ثم يرتفع من السرّة الى الكتفين منتشراً في ذراعه وساقه اليسريين. ورأى نفسه يقع، رأى الأرض تقترب منه بسرعة وببطء في الحين عينه". رحل فليكس الى القطب الشمالي بحثاً عن الباخرة التي غرقت في العام 1957 وعن الكنز المدفون فيها تحت الجليد ويضمّ قطعاً فنية "بدائية" نادرة أقنعة وأدوات... وهو في رحلته تلك يدخل عبر مخيّلة ايشينوز وذاكرته الوثائقية عالماً شبه أكزوتيكي: عالم الجليد، عالم البياض الذي يشبه بياض الموت، عالم الفراغ الذي يماثل فراغ الروح. لكن "أكزوتيكية" إيشينوز لن تقع في الاسفاف والمجانية ولن تهدف الى اغراء القارىء وإمتاعه على غرار بعض الكتاب الذين يهوون "التغريب" المفتعل. فالبطل المضطرب والممزّق والقلق يصغي الى نداء القطب الشمالي منبهراً ببريق الكنز المدفون تحت الثلج. ولا يلبي النداء الا سعياً لتحقيق ذاته المنفصمة التي تنتهبها الخيبة والجرأة، شهوة الحياة وضوء الحلم، ضوضاء السوق وصمت الوحدة. وانطلاقاً من بعض الوثائق والمعطيات الدقيقة يمعن الكاتب في وصف الرحلة وصفاً جميلاً وذكياً معتمداً كعادته لغته الحادة والساحرة، لغته التي تعرف كيف تسرد وكيف تصمت، كيف تبالغ وتضخّم من غير ان تقع لحظة في الثرثرة واللغو. تتوزّع الرواية إذن على زمنين يملآن ايام السنة التي ظلّ ينقصها يومان لتكتمل وهي سنة حاسمة في عمر البطل السلبيّ بامتياز. والزمنان مغروزان جيداً في الجغرافيا والواقع: زمن المغامرة في القطب الشمالي وزمن المعاناة اليومية في المدينة والزمن الأخير تصنعه سوق الفن والمصارف وكذلك شخصيات تحيط ب"البطل" من مثل هاوي الفن دولاهي وهيلين وسوزان وسواهم... وبين الزمنين والعالمين راح فليكس يهيم ليقتل خيبته وسأمه وينهي قلقه فإذا به ينتهي في حصار خانق. وبين الزمنين والعالمين هامَ الكاتب بدوره ولكن ليكتب صفحات مشرقة وساحرة في أجوائها ولغتها. لعلّ أجمل وصف يمكن ان توصف به الرواية ما قاله فيها الناقد الفرنسي بيار لوباب: "رواية واقعية تروي كيف اننا نفقد معنى الواقع وكيف ان الحياة تُفلت منّا". لكن الرواية لا تروي "فقد" الواقع و"إفلات" الحياة الا عبر جعلهما ذريعة للبحث عن زمن غائب أو مفقود يستحيل العثور عليه كاملاً. فالحياة والواقع كلاهما لا يخلوان من الوهم لكنه الوهم الذي يجعلهما حقيقيين تماماً. ويعرف ايشينوز كيف يصهر المادة الواقعية في المادة الروائية حتى لتصبح الرواية هي الوجه الآخر للحياة والحياة هي العمق الحقيقيّ للرواية. وليست رواياته في معظم الأحيان الا "قطعاً" أو فواصل من حياة وقد أضحت حكاية وحكاية عجيبة لا عادية. قيل عن جان أيشينوز انه روائي الفرار والهروب وروائي الجغرافيا والمغامرات التي تجمع بين الجو الكافكاوي القاتم والسخرية والعبثية بيكيت والتشويق "البوليسي" والقلق الوجودي والشك. وقيل عنه انه جعل من نفسه "خرائطي عصره" في ما شهد العصر من كوارث واحلام وهواجس... لكن ايشينوز يظلّ أولاً وأخيراً روائياً من طراز نادر أي "مبتدع" شخصيات وأحداث و"مختلق" حكايات لا تنتهي، حكايات تشبه الحياة من شدّة مرارتها الواقعية وتماثل الحلم من شدة كثافتها الوهمية.