بعد أن غدت هزيمتنا التاريخية في القرن العشرين أشبه ببديهية لا يحار المرء في تقليبها على وجوهها المختلفة، ما تزال فئة من "المناضلين القدامى" تتشبث بشعار "مقاومة التطبيع" كسلاح أخير من أسلحة "التعبئة" و"الحشد" والرباط"، وكتعزية للنفس الجمعية المكلومة في زمن الانهيار الضاري. بيد ان الأمر لم يستقر عند هذا الحد الذي في وسع الكائن ان يختلق له المبررات وأن يتعاطى معه بشيء من التسامح، بل تعداه الى ما يشبه عملية التكفير التي تذكر ب"محاكم التفتيش"، فاستبدلت النقابات والاتحادات والروابط المهنية - كما هو جارٍ حالياً في الأردن - دورها كأطر هدفها تنظيم مهنة المنتسبين اليها وتحصيل حقوقهم والدفاع عن قضاياهم المعيشية، بدور آخر هو الى التنظيم العقائدي أقرب. واستطراداً يمكن لفت الانتباه الى ان هذه المؤسسات النقابية تتعامل مع منتسبيها كما لو كانوا اعضاء في حزب ستاليني حديدي ومؤدلج في الآن نفسه، وبالتالي فليس من حق "هؤلاء الرفاق" ان يغرد أحدهم خارج السرب تحت تهديد النفي والسحق والتشويه الذي يرقى الى الموت المعنوي الذي هو أشد وقعاً من نظيره المادي. ويستتبع ذلك ان يتخلى الانسان عن عقله الفردي، وينخرط في العقل الجماعي الأميل الى استمرار مداعبة الأحلام الطوباوية المفارقة للواقع، والهجينة عن المستقبل. وإذا كان الزمن العُرفي بأحكامه الغاشمة التي كانت تصادر حق النقابات في العمل والتنظيم والنضال المطلبي قد ولّى، فإن ظلاله عادت تتوسع وتتعملق فيما يمكن ان يُطلق عليه "عُرفية النقابات" التي لا تجد ضيراً في وسم انسانٍ ما ب"الخيانة" و"التفريط" و"الأسرلة" و"الصهينة" تحت الشعار العريض الملتبس: "التطبيع". وقد وصل التباس هذا المفهوم حداً من "العنف" صار بموجبه الفلسطينيون الذين تشبثوا بوطنهم عشية احتلال أراضيهم عام 1948، اسرائيليين بالمعنى الاتهامي للكلمة، لمجرد حملهم - مكرهين - جنسية هذا الكيان، وتنقلهم من خلال جواز سفره. وفي الحوادث التي تمت وما تزال تجري من فصل واجراءات "تأديبية" بحق أشخاص زاروا اسرائيل، ما يؤكد الضراوة العرفية التي تفيض من ممارسات النقابات التي تجاوزت في تطرفها كل السلطات. وإذا كانت النقابات تعتقد أنها في ممارساتها هذه تحدّ من "الاختراق الصهيوني" لنا، أو تحول دونه، فإنها في المقابل ترتكب معصية لا تغتفر في كمّها الأفواه، وحجرها على العقول، وإرهابها الفكري الذي يتعارض مع أبسط حقوق الانسان.