"حفر دافئة" الحبيب السالمي المؤسسة العربية للدراسات، بيروت 1999 "خواء هذا اللحم، خواء كله اذا كانت الروح منهكة مخرقة مثل مرمى رصاص"، هكذا، وعبر احداث ومشاهد يروي الحبيب السالمي روايته "حفر دافئة" في ما هو مترابط حيناً ومفكك حيناً آخر. رواية تفتح ابوابها عبر مفكرة الراوي الذي، وهو في غرفته الباريسية، يتذكر تونس واحياءها وشوارعها، وبالطبع من عرفهم من الناس في المدينة أو القرية. فكل رقم من أرقام هواتف هذه المفكرة تخرج الينا قصة أو حكاية أو مأساة.. جمع من الناس لا رابط بينهم، الا أرقام هواتفهم الموجودة في هذه المفكرة... على ان أصحاب هذه الارقام كلهم من معارف الراوي، ويعرف كل شيء عنهم عادل المشبوه حياته الجنسية، والمتهم سياسياً اذ في كل مرة يلقى القبض عليه. وهو عائد من السفر، وبعد التحقيق، يوهمونه انهم أخطأوا في الاسم. وهو ابن رجل تعيس لا يجد عملاً ثابتاً ليعيل اسرته، وسبب ذلك قماءة شكله وشخصيته كأن لا تفتح الابواب الا للاشخاص الجميلي الشكل والمتعلمين وابناء الذوات. ويتصرف عادل باستمرار في شكل يومي وكأنه يعاني من ارهاصات وفي كل مرة يصوره الكاتب في شكل مختلف: "يقترب عادل مني فجأة فيكاد جسده يلامس جسدي. وللمرة الاولى في تلك السهرة يحدق في وجهي كما لو انه يريد ان يتأكد من ان اهتمامي به لم يتناقص. وانني ما زلت مستعداً للاعتناء بكل ما يفعله والتقاط كل ما يبديه من أحاسيس في مثل ذلك الظرف القاسي الذي داهمه"، لكن الامور لا تسير حسبما يفكر الراوي. كل شيء يفلت من غير ما سبب. وببطء شديد يجر بطل القصة جسده مقابل النافذة المفتوحة. ثم يغمض عينيه فيراه - أي عادل المطلبي - لا ترتسم صورته في ذهنه دفعة واحدة، كما يحدث الامر عندما يتذكر سعاد أو حمودة الاشهب أو حضرية. سعاد تتحرر من اشكال التقاليد كلها وتستسلم لاسباني في القطار من دون ان تلتقيه مرة ثانية، ولا تشعر انها ارتكبت إثماً، فجسدها ملك لها وليس لأي انسان آخر، ولكن على ما ترويه سعاد وهي طفلة تلك الأحاسيس التي تتفجر فيها وهي تلامس جسد أبيها عندما تنام في منتصف السرير بينه وبين أمها، أحاسيس مبهمة لا تعرف أسبابها. وهي عندما تلتقي بطل القصة، تروي له نتفاً من حياتها. فاذا هي تريد ان تعيش كما يحلو لها وخصوصاً انها في باريس الآن حيث الحياة مفتوحة على الحرية الى أقصاها. أما حمودة الأشهب العينين، الذي لم ينجب، فينصحونه بالتداوي في باريس فيترك كل شيء ويذهب الى هناك مع زوجته حضريه. ويبدأ رحلة من الصراع مع الحياة، ليس فقط من أجل الإنجاب، بل من أجل الحياة كلها. ويعالج وينجح العلاج ويثمر طفلاً ثم طفلة. لكن العيش في باريس يطيب لحمودة وإن كانت منغصات كثيرة تواجهه في هذه المدينة الكبيرة: هناك اناس يضيعون، تماماً مثلما تضيع الاشياء الصغيرة. اناس مثله تلتهمهم الحياة، فتنقطع فجأة اخبارهم. لكن الاولاد يمنحون الابوين سعادة اخرى ف"في تلك الفترة بدأت تتولد في نفسي حموده وحضرية أحاسيس جديدة منحت استعدادهما بعداً آخر، أحاسيس لذيذة تنتاب الذين يتأهبون لاستقبال رضيع طال انتظاره". ثم بعد مجيئه يمنحهما هذه السعادة الفائضة التي في النهاية، تخفف من عبء الحياة الثقيل. أما سعاد هذه الشخصية المميزة، بآرائها واهدافها في الحياة، وفلسفتها الخاصة، فتجعل بطل القصة يجد نفسه أسير أمزجتها المتنوعة ثم تهيبه الدائم منها لئلا يغضبها ولئلا يشعر انها لم تفهمه. وهو في أزاء امزجتها احياناً يفقد صوابه واحياناً لا يفقده. هي الفعل وهو رد الفعل كما يحدث عادة للعشاق. صار سخياً جداً معها كان يريد، في يوم ما، ان يهديها كل ما يعجبها: "أحملها الى غاليري لافيات او الساماريتين أو مجمع مونبرناس. وأبذل كل ما لدي من جهد لاقناعها بشراء شيء ما. أكون غالباً متوتراً خائفاً من الا تلبي رغبتي فتحرمني من الاحساس بتلك المتعة التي لا يعرفها الا العشاق، متعة ان تعطي شيئاً لمن تحب". وبين الحين والآخر، في لقاءات متعددة، يشعر انه ارتبط بها، وانه اصبح عاشقها اذ صارت توقظ فيه كل خلية في جسده وتشيع في نفسه شعوراً لذيذاً بالفرح والزهو في آن: "أحب وجهك الخارج لتوه من النوم في الصباح تقول لي وهي تنزع حذاءها ثم جواربها. وتلقي بها على الارض بحركات أنثوية مغرية تقلد بها راقصات الستربتيز، أزيل الغطاء. وبحركة سريعة تجلس على ركبتي فأحس بثقل ردفيها". أهمية سعاد انها تتصرف بلا تكلف وما تفعله برغبة حقيقية. وهذه الأحاسيس يقولها بطل القصة بحميمية شغوفة: "أتطلع الى فمها، ثم أقول في نفسي، وأنا أرقب شفتيها الممتلئتين المطليتين دائماً بأحمر فاقع.. أي قدر ساق اليّ هذه الانثى المكومة أمامي". لكن سعاد سرعان ما تختفي: أين انت يا سعاد. يتساءل وهو ينحني ببطء شديد على صفحة المفكرة في حرف ألغين التي لا تحتوي الا اسمها المكتوب بحبر أحمر وبخط متردد كأنه لطفل حديث العهد بالكتابة. كان قد مضى زمن طويل على فراقهما حين انقطعت اخبارها. ويتذكر البطل ما كانت تسميه ب"الفترات الحساسة". وحتى فلسفتها في الحياة القائمة على عبارة "أغنم الحياة وامضِ" التي كانت ترددها. ومن قرية "الهوارب" إذاً الى باريس كانت رحلة الاشهب العجيبة مع زوجته حضرية، هذه المرأة التي كان همها الأوحد اسعاد زوجها. وان تكون في خدمته دائماً وتتآلف مع حياة باريس بسرعة أكثر من حمودها زوجها، وتتشابك الرواي بين الماضي والحاضر، ولكن الراوية لا يستهلك وقتاً طويلاً. وهو يقدم هذه المشاهد في سرد عادي وعفوي وصادق. فحمودة طاب له العيش في فرنسا، واستفاد كثيراً من تأمينات البطالة التي تمنح للعاطلين عن العمل، مع انه كان يعمل سراً هنا وهناك. ثم يدخر مالاً لا بأس به ليسمح له تحقيق أمنية كانت مستحيلة في الماضي عندما كان في قريته التونسية "الهوارب" وهي الحج الى بيت الله الحرام، وتتحقق الامنية ببساطة، فينسى الناس في البلد اسمه ليصبح الحاج وحضرية الحاجة. غادر الاشهب الهوارب من اجل العلاج ثم العودة، لكن الشيء الأهم اي العودة الى الوطن سار عكس الريح، فكم هو سريع الزمن في هذه البلاد! تراب دقيق تسفوه الريح، خفيف وهش مثل الاوراق النقدية التي تطير من اليد بسرعة عجيبة، كما لو انها مدفوعة بقوى سحرية. الايام تمضي، وحموده يرتبط اكثر فأكثر بما حوله والعودة النهائية التي ما انفك يرجئها، اذ يطلع له في كل مرة سبب يزداد صعوبة الى درجة انه اصبح يشعر كما لو انه وقع في فخ نُصب له باحكام. نعم، الهوارب التي يزورها لفترات قصيرة كل عامين لا تزال في القلب. ولكن كم تبدو له الآن بعيدة". فاذا كانت هذه الرواية تريد ان تروي ما يحصل في تلك ال"حفر دافئة" فقد طغت شخصيتا حموده وحضرية على احداثها لما في قصتهما من حيوية ودفق. الا ان سعاد كانت علامة فارقة، وعادل ظلت شخصيته مبهمة وغامضة، مع ان كاتب الرواية يلمح الى شخصيته الشاذة، لكنه ايضاً يحن الى لقائه ومعرفة مصيره. واللعبة الروائية التي اتبعها السالمي انقذته من الخلل الزمني لكل شخصية من هذه الشخصيات، وهي لعبة ذكية جداً مارسها الكاتب بكثير من النجاح، فامتلكت الرواية جاذبيتها الخاصة، على ان ما أعابها كثرة الحديث عن المفردات العامية التونسية أو وصف انواع الطعام، أو ما يشبه التحقيقات الصحافية مثل الحديث عن فيديو القرن العشرين واسماء الاسطوانات والمطربات من أدوار صالح عبدالحي الى الطرب الغرناطي المغربي أو: وصلة اصبعين. وصلة سيكاه، وصلة رأس الذيل... وغير ذلك يحدث كثيراً بين السطور، مما افقد بعض الاحيان الكثير من حرارة السرد. على كل حال، اعتقد ان هذه الرواية وطّدت اقدام الحبيب السالمي في هذا العالم - عالم الرواية - الجميل.