من بين معضلات القضية العراقية، تتبوأ مسألة العقوبات الدولية التي فرضت على العراق بعد غزو الكويت حيزاً مهماً في سجالات الكتّاب والسياسيين العراقيين والعرب، نظراً الى أهميتها وحساسيتها والى ما ترتب وسيترتب على بقاء العقوبات او التخفيف منها او الغائها من نتائج على المجتمع العراقي ونظام الحكم القائم، او على طبيعة موقع العراق ودوره في اوضاع المنطقة وتطوراتها. وفي هذا السياق يندرج مقال الكاتب والباحث اللبناني الأستاذ رغيد الصلح بعنوان "هل حان اخراج العراق من الصندوق" الذي نشرته "الحياة" في عددها الصادر في 29 ايلول سبتمبر الماضي. إذ تناول فيه الأسباب والعوامل التي حالت وتحول دون رفع العقوبات في المرحلة الراهنة مستنتجاً، او مفترضاً، دوراً سيقوم به نظام العراق في حال رفع العقوبات عنه واخراجه "من الصندوق". غير ان معالجة الكاتب هذه، على اهميتها، لم تفلح في تقديم اسباب متماسكة ومقنعة لاستنتاجاته، او افتراضاته. وبهدف التمهيد لتقديم رؤيته لمعالجة المسألة المطروحة عرض، في البدء، وجهتي النظر الاميركية، الرسمية وغير الرسمية، للموقف من العقوبات، ومن مجمل السياسة الاميركية تجاه نظام الحكم القائم في العراق، ثم قام بعد ذلك باجراء مقارنة بين عدد من الدول التي فرضت عليها عقوبات وبين العراق، واستنتاجه لامكانية رفعها عن تلك الدول وصعوبة ذلك بالنسبة للعراق. وفي ضوء ذلك يستنتج المقال، بأن الموقف الاميركي "المتصلب" بصورة خاصة ضد بغداد، يتصل بعدد من العوامل المهمة التي تضع العراق في الحسابات الاميركية في خانة منفردة بين سائر الدول الناشزة. اختار الصلح لمقاله عنواناً حيادياً ومتسائلاً: هل حان اخراج العراق "من الصندوق"؟ لكنه توصل، في خاتمته، الى الاجابة عنه بالقول، ان بغداد لم تنفذ حتى الآن ما هو مطلوب منها اميركياً، او ما يضطر واشنطن الى مراجعة سياستها تجاه العراق، وان ذلك، وللأسباب التي ذكرت أيضاً، يعيد ازمة العلاقة الاميركية - العراقية الى نقطة البداية. ان اي قراءة للفوارق والمقارنات والاستنتاجات التي توصل اليها الكاتب، تجري في اطار الواقع التاريخي والجغرافي - السياسي للعراق. لكن وقبل القيام بذلك ينبغي ان نتذكر جيداً، ودائماً، مسألتين مهمتين: الأولى، ان العراق، بسبب هزيمة النظام امام قوات التحالف الدولي بعد غزو الكويت، اصبح بلداً مهزوماً، وأن القرارات العقابية الدولية التي فرضت عليه، خصوصاً "ابو القرارات" الذي يحمل الرقم 687 وضعت تقييدات شديدة تمنع او تحد من امكان امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل التي تعتبر احد الشروط الأساسية لتعديل موازين القوى في المنطقة، وهذا القرار والتقييدات التي يفرضها، فضلاً عن تقييدات القرارات الدولية الأخرى، هي موضع اجماع من المجتمع الدولي ومجلس الأمن. الثانية، هي ان دخول العراق حربين شاملتين خلال عقد واحد، قد الحقتا به خسائر هائلة ودمار شامل لبنيته التحتية، فضلاً عن ضخامة ما يحتاجه من اموال لاعادة البناء ودفع التعويضات، وتسديد المديونية الضخمة، وهي وقائع ارجعت العراق الى الوراء عشرات السنين او، على الأقل، الى خمسة عقود، وفقاً لأكثر التقديرات تفاؤلاً. وهذا يعني، بوضوح، ان العراق وحتى في حال تحقيق رفع كامل للعقوبات الاقتصادية، سيبقى عاجزاً، واقعياً، عن ان يشكل قوة قادرة على المساهمة في تعديل حقيقي في ميزان القوى العسكري في المنطقة مع اسرائيل، الا اذا قام بتحقيق جزء من ذلك على حساب الضرورات الملحة لاعادة بناء وترميم البنى التحتية وعلى حساب معاناة العراقيين، وبطرق سرية بعيدة عن الرقابة الدولية. لكن مع ذلك، وبافتراض امكانية تجاوز هذين العاملين المعيقين، وتمكن النظام من بناء قوة عسكرية ومادية متنامية ومؤثرة، فهل يستطيع العراق ان يعدل في موازين القوى الاقليمية الذي يفترضه الاستاذ الصلح ويشكل خطراً على اسرائيل وعلى المصالح الاميركية في الخليج؟ ان الاجابة عن هذا السؤال هي لا... بالتأكيد، ذلك ان استنتاج الكاتب بأن العراق قادر على تقديم دعم متنام ومؤثر لأي تحالف عربي اذا ما رفعت عنه العقوبات، وافتراضه بأن ذلك سيؤدي الى تعديل موازين القوى مع اسرائيل، هو استنتاج، وافتراض لا يسندهما الواقع التاريخي ولا الوضع السياسي الراهن. فتاريخياً، وعلى رغم كفاءة أداء الجيش العراقي وشجاعة جنوده وتمتع العراق بقدرات مادية واقتصادية كبيرة، لم يؤثر العراق وجيشه في تعديل موازين القوى مع اسرائيل ولم تتحدث اي دراسة استراتيجية عن دور حاسم للعراق في اي تحالف عربي خلال الحروب العربية - الاسرائيلية، حيث بدا هذا الدور في حرب 1948 على اهميته الميدانية، معطلاً بسبب القرار الشهير للحكومة العراقية بأن "ماكو اوامر". في حين كان هذا الدور سلبياً ومعادياً لمصر في حرب 1956 وكان غائباً في حرب 1967 ورمزياً في حرب 1973 وغائباً ايضاً في حرب 1982 حيث كان العراق، وجيشه، عندما احتلت القوات الاسرائيلية لبنان ودخلت أول عاصمة عربية بيروت، متورطاً في الحرب ضد ايران دفاعاً عن البوابة الشرقية! وبافتراض تجاوز الواقع التاريخي ودلالاته، وكذلك تجاوز نهج وسياسة النظام القائم طيلة العقود الثلاثة المنصرمة.. فهل يمكن للعراق الخارج "من الصندوق" ان يقدم فعلاً دعماً متنامياً ومؤثراً لتحالف عربي يسعى لتعديل موازين القوى مع اسرائيل؟ اذا كان الاستعداد للقيام بذلك "اصبح متوافراً" من الجانب العراقي، افتراضاً، فمع أية دول او جهات عربية ينبغي على العراق ان يتحالف، ليوظف قوته المتنامية والمؤثرة في الصراع العربي - الاسرائيلي؟ ان مصر وسورية والأردن والفلسطينيين ولبنان، هي الدول والجهات المعنية اكثر من غيرها باقامة مثل هذا التحالف، وفي تعديل موازين القوى بمواجهة اسرائيل، فهل يمكن تحقيق ذلك في ظل رياح المفاوضات و"التسوية" و"السلام" التي تهب على المنطقة بينما ترتبط كل من مصر والأردن والسلطة الفلسطينية ب"اتفاقيات سلام" وتواصل المفاوضات مع اسرائيل؟ وهل سيتمكن كل من سورية ولبنان، المقبلان على تنشيط المفاوضات مع الدولة العبرية، الدخول ايضاً بمثل هذا التحالف العسكري؟ ان الجواب على ذلك هو النفي، بالتأكيد. وإذا كان ثمة من يعتقد بامكانية تحقيق مثل هذا التحالف وتعديل موازين القوى، والاستقواء بالقوة العراقية الجديدة المفترضة، لخدمة المفاوضات وتحسين شروطها، فان ذلك يعني قلب طاولة المفاوضات، والعودة بأوضاع المنطقة الى المربع رقم واحد، وهذا، لا تقبل به ولا تريده، كما نعتقد، الدول والجهات العربية المعنية، وكذلك الدول العربية الاخرى، فضلاً عن اسرائيل والولاياتالمتحدة وأوروبا. هكذا تبدو هذه الافتراضات، التي تشير لدور محتمل للعراق يمكن ان يقوم به في تعديل موازين القوى الاقليمية والعربية مع اسرائيل في حالة اخراجه "من الصندوق" ورفع العقوبات عنه، هي مجرد افتراضات غير ممكنة التحقيق، وبالتالي، من غير المجدي، اساساً، التفكير بها بنزعة ارادوية، وأيديولوجية، تتمنى وتأمل، ربما، ان يتحقق ذلك، لكن من دون ان تكون له اسس ومقومات تبرره، في الواقع العملي. اما الافتراض بتهديد المصالح الاميركية في منطقة الخليج، فهو ايضاً افتراض غير واقعي. فعلى رغم ان العراق لم يهدد المصالح الغربية، البريطانية ثم الاميركية في منطقة الخليج، منذ تأسيسه، وخاصة خلال الحكم القائم، فانه لن يستطيع القيام بذلك، بالتأكيد، بعد رفع العقوبات وإخراجه من الصندوق. فإذا كانت اوضاعه الاقتصادية والعسكرية لن تمكنه من اطلاق أية تهديدات جدية ضد الدول الخليجية، او ضد المصالح الاميركية من خلالها، فإن تلك الدول والمصالح اصبحت "محصنة" من هذه الاخطار المحتملة، سواء بالاتفاقات الامنية والعسكرية التي عقدتها مع الولاياتالمتحدةوبريطانيا او بسبب التواجد العسكري والأمني المكثف لهاتين الدولتين في هذه المنطقة والذي لم يكن سابقاً بالقوة والكثافة الحاليتين، هذا اضافة الى ان الدرس الذي تلقاه العراق، وخاصة نظام الحكم القائم، هو الكلفة العالية جداً التي على العراق والعراقيين دفعها، اذا ما هدد امن ومصالح دول المنطقة، وكذلك امن ومصالح الدول الحليفة لها، وخاصة الولاياتالمتحدة. ان انعدام اية أسس ومقومات لاحتمال استعادة العراق لقوته العسكرية التي تمكنه من تعديل موازين القوى الاقليمية مع اسرائيل، او تهديد المصالح الاميركية في الخليج، كي تدفع واشنطن للعمل على ابقاء العقوبات وعدم اخراج العراق "من الصندوق"، كما يعتقد الاستاذ الصلح، انما يتطلب اعادة النظر في هذا الاعتقاد والبحث جدياً في الأسباب والدوافع الحقيقية التي تدعو الولاياتالمتحدة، وبريطانيا، والمجتمع الدولي، بدرجة اقل، لتطبيق القرارات الدولية ومنها استمرار العقوبات على العراق. تبرر الولاياتالمتحدة، ومعها بريطانيا، سياستها هذه الداعية للإبقاء على العقوبات حتى الاطاحة بنظام صدام، بأن ذلك سيساعد على اضعاف هذا النظام وتضييق قاعدة الحكم التي يستند اليها وتأليبها ضده، اضافة الى شل قدرته في اعادة بناء ترسانته من الاسلحة المحظورة، ومطالبته كذلك بتدمير ما يحتفظ منها، او من مكوناتها ولم يصرح بها للجان التفتيش. وعلى رغم معرفة واشنطن ان ابقاء العقوبات يضر بالشعب العراقي ويزيد من معاناته، لكنها تعتقد بأنها تلحق اشد الأضرار بالنظام ايضاً. وهي اذ ترى في ذلك عاملاً مهماً يساعد في الاطاحة بالنظام، فإنها تعتبر رفع العقوبات بمثابة "الجائزة" التي لن تمنحها للنظام القائم، بل للنظام الجديد الذي سيعقبه، والذي سيكون، اما نظام حليف وصديق لها فتساعده هذه "الجائزة" على ترسيخ اوضاعه وتوسيع قاعدته في صفوف المجتمع العراقي، او ان يقوم نظام جديد، انقلاب عسكري مثلاً، ليست على صلة بأشخاصه ولا تعرف هويته، وهو احتمال ضعيف، فيكون رفع العقوبات، والحالة هذه، اضافة لعملها على تقسيط او الغاء التعويضات والديون التي بذمة العراق والاستعداد لاعادة اعماره، الأوراق المؤثرة والمغرية للنظام الجديد لكسب وده وصداقته... فلماذا، اذن، تفرط بهذه الورقة لنظام لم تعد تخفي رغبتها الاكيدة وعملها في المساعدة على اطاحته وتغييره؟ لعل من المفيد ان نشير هنا الى ما كتبته صحيفة "بابل"، التي يديرها ويشرف عليها عدي وتعكس آراء والده، بعددها الصادر في 24 تشرين الثاني نوفمبر الجاري، بأن الاميركيين سيكونون مجبرين على رفع الحظر عن العراق لأنه البلد الوحيد الذي يستطيع مواجهة السياسة الايرانية، والبلد الذي لا بديل عنه ليس "في الموازنة" والوقوف في وجه ايران فقط، وإنما القادر الوحيد على ان يذيقها مرارة الهزيمة؟!... فأي علاقة لهذا الدور الذي يخطط له النظام للعراق، والدور - الوهم الذي يفترضه الاستاذ الصلح؟ ان النظرة الايديولوجية لدور "قومي" و"وطني" مفترض للعراق يمكن ان يقوم به اذا ما اخرج "من الصندوق" ورفعت عنه العقوبات هي نظرة خاطئة وغير واقعية ومغرقة في الأوهام، وبذلك فان تغيير النظام بإطاحته هو الطريق الأكثر واقعية لاخراج العراق من الصندوق وإنهاء معاناة العراقيين، وهو الأمر الذي ينبغي حقاً التفكير به بعمق واشغال الفكر في البحث عن كل السبل والوسائل الواقعية والممكنة التي تؤدي الى تحقيق التغيير للنظام السياسي القائم وإزاحته، باعتبار ذلك الشرط اللازم والضروري لاخراج العراق "من الصندوق" ورفع العقوبات. * كاتب عراقي، لندن