"- نقول الحق، إذن نموت. - ألا تموت الكلمات حين تقال؟ هوت فانفجرت طائرة مروحية في حرم الهيكل الذي كان في مخيلة بعلبك. هُدم الهيكل، تحطمت الطائرة. بين الحطام والأنقاض جثتا امرأة ورجل عُثر في جيبه على هذه المكتوبة: "انتحار": النهر/ ألقى نفسه/ في البحر". في بيان الحال هذا والسؤال وصيرورة التحول، ينهي خليل رامز سركيس كتابه "زواج مدني: بعل وبك" دار الجديد - بيروت 1999. ولولا أن هوت الطائرة لأمكن للكتاب ان يتواصل، فهو إذ بناه المؤلف على الحوار بين "بعل" و"بك"، يفتح بالحوار قضايا لا نهائية تبعاً للانهائية الانسان. وخليل رامز سركيس المفكر والكاتب اللبناني اختار في معظم أعماله أسلوب الحوار، وأعماله تحيل الى ما يمكن تسميته ب"وحدة الكتابة" الصادرة عن "وحدة المعرفة" و"وحدة الكاتب"، بل هي الممارسة النادرة بالعربية في عصرنا لنص يوحد بين الفلسفة والشعر والتأمل وروح الإقامة الانسانية على الأرض. القول - الحوار نجده متحققاً في "زواج مدني: بعل وبك"، حوار ينهض بالتعبير كموج البحر يطوي صفحة الماء طياً، وإذ يموج القول - الحوار فإنه يتضمن ايضاً قيعاناً ثابتة هي محطات القول وقضاياه المستمرة، قضايا الاجتماع الإنساني الكلاسيكية، خصوصاً في المشرق ذي الحضارات العريقة الحاضرة دائماً لا تتحول ولا تزول. لذلك نقرأ كتاب خليل رامز سركيس بتمهل، ونستعيده بتمهل ايضاً، وربما حين نقرأه بعد زمن يقصر أو يطول، نكتشف فيه جديداً، عبر تلك اليقظات التي يحدثها في نفوسنا لتتفتح على وعي، على جواب قليل وسؤال كثير. ولا بد من الإشارة الى اللغة المتفردة لخليل رامز سركيس، تتمثل فيها جمالية العربية اللبنانية في أنقى تجوهرها، كما تجربة الكاتب المتميزة في جمع الأدب بالفكر، والعمارة اللغوية بالبناء الفلسفي، واختصار القول باختزال الافكار المرسلة في الفكرة - الأم أو الفكرة - الجوهر. وإذ الحوار ثنائية متحاورين، فإن حوار الكتاب بين أطراف ثلاثة: "بعل" و"بك" وثالث صامت هو الهيكل كفعل مشاركة بين الاثنين وكحافز للحوار وموضوع له وشأن مقيم. وما الهيكل في كتاب سركيس؟ انه في اعتقادنا لبنان، على رغم ان المؤلف لم يذكره بالاسم. فهو من المفكرين القلة الذين اكتنهوا كينونة لبنان وعبروا عنها في رسالة تلتقط الروح المشرقية وشروخها المعبرة عن حيوية - صراع. ومع ثورة الاتصال في عالمنا اليوم وموجات الهجرة واختلاط الشعوب وسيادة أمم الاختلاط الولاياتالمتحدة الاميركية مثالاً، على أمم النقاء العرقي اليابان مثالاً، فإن رسالة الروح المشرقية تطاول العالم كله أو تكاد. رسالة الروح المشرقية، رسالة الشراكة أو "الهيكل" في كتاب سركيس، هي أيضاً في أصل الكائن البشري كمزيج من روح وطينٍ، من سماء وأرض: "بك: الأقوى، هنا، هو الأقوى تاريخاً ما دمتَ - أنت الإله - وما دمتُ - أنا المدينة - زوجين متضامنين تضامن أعمدة الحضارة التي تجاوزُ ما يبدو من خارجيّ الحجر في هيكلنا الى مدى تحتانيّه ومدى فوقانيّه في أبعاد شأو معاً. بعل: أروع ما بحقيقتنا - نظامنا في الهيكل - هو أننا كلما نشدناها، وكثيراً ما نشدنا، وجدناها على مجرى طبيعتنا. أما ما يخالف طبيعتنا - حقيقة تاريخنا - فمقضيّ عليه عندنا. إنه شيء ميت: وُلد ميتاً، وعاش ميتاً، ومات ميتاً". هكذا الشراكة في هيكلها مجرى طبيعة لا عَقْدٌ بزمن، يتطور الشريكان وتبقى الشراكة إذ تتطور معهما في "مجرى طبيعتهما"، ولا حاجة الى الالتزام في المواقف كلها: "لا جبرية في نظامنا، لا تبعية، لا كليّة شمول، وإنْ يكن بمرتجى نظامنا ميثاق وحدة وتوحيد". ولكن، لكل هيكل قدره، يقول خليل رامز سركيس متلمساً دوائر الحقد والطمع بالهيكل ذي القيم، فمن يحميه في صراع الهياكل ومتواليات القبائل يطوي طارفها تليدها لتستعرض مغانم حرب ومغانم سلم؟ الحرب وحدها لا تحمي، فمن ينخرط يخرج منها شخصاً آخر، شخصية أخرى، إذا اتيح له الخروج. قد تنتهي الحرب بسلام، لكنها قطعاً لا تنتهي بسلامة، أو أن الحرب لا تنتهي أبداً إذ يبقى أثر منها دماراً في الهياكل وفي العقول وفي الأرواح. ومشروع الحل السركيسي نجده في "انسان متحرر أبديّ الجوهر، آنيّ الوجود، يعرف كيف التمرس بالآلة العجيبة - الآلة الروحية والمادية - التي اسمها الحياة. إنسانُ الوقتيّ الدائمِ حركةٌ ليس لها مدى نهائيُّ الحدود". خارج الانسان - كمشروع حلّ - يبدو الإنقاذ محالاً، فليس لشركاء الهيكل من فعل دفاعي سوى الحب، وعلى المسرح اليومي لا بد من الموجب والسالب، الحب والبغض، اللا والنعم، فيكون الحب بذلك حرباً مستمرة لخلاص الهيكل بخلاص أهله. وفي مصاير الهيكل والحرية، يستعيد القارئ المتابع لخليل رامز سركيس أصداء من كتابه "مصير" منشورات الندوة اللبنانية - بيروت 1965 وحفرياته العميقة في الزمان والمكان والمصير، خصوصاً عندما يقول "بعل" في الحوارية: "لا شيء يتغير اذ يتغيّر كل شيء! أمعضلةٌ هنا أم فجوةُ مصير؟ لو نؤتى البصيرة التي تشمل حقيقة المسافة، زمناً ومكاناً، بين ما نرى وما لا نرى، فندرك أن ما نرى لا يكاد يخلو من واقع بعض الأوهام!". وحين تضيق المسافة التاريخية تحتشد فيها الأضداد بما يؤرق رؤيتنا للمصير، لكن المسافة اذ تمتد، كزمن، تحدّ من سلبيات الاحتشاد، تشتتها وتسمح بنهوض الهيكل، كقيمة مشاركة. ثمة التفات واع الى نقائض الاجتماع الانساني وتحولات القيم، وثمة قبض على دور تحت الأعماق هي الحب والاعتراف بالخطيئة وكذلك تفعيل الإيمان على حجر الواقع وفي مجريات الوقائع الصعبة. يُعلي خليل رامز سركيس التأمل الفكري في تجربة المشاركة الانسانية من دون ان يفكّ رباطها بالأرض، بالواقع، وفي أحيان ينحرف بخيوط الفكر الدقيقة التي ينسجها بدأب، الى لعبة الفنان، وهذا يشير الى ما ذكرنا من "وحدة الكتابة" لديه. ولعل في الإشارات الى الأرض - الواقع، دخولاً واضحاً في العيش اللبناني كنموذج معلن لمعضلات عيش الشراكة في المشرق. نلتفت الى "زواج مدني: بعل وبك" لخليل رامز سركيس وننبه اليه، ككتاب يشرح صدر القارئ. وأذكرُ انني، قبل ان ينشرح به صدري ويتسع به بيتي ويتفتح معه نظري الى أعماق وآفاق ما نحن فيه، أطلقتُ في 22/11/1985 "الصرخة" التالية من بين أنقاض الهيكل اللبناني: "كان لبنان، كيف يكون لبنان؟ المدائن المهدمة، السلاح. الذاكرة المحترقة. تجار العملة. التجار الصغار والتجار الكبار. غياب قيم العلم والعمل. الغباء، والغباء والاستغباء. الفرد المهان والجماعة المهانة. السجن في صياغات الخطب المتكررة، مراكز الطوائف لدراسة الطوائف. لبنان المطرود الى الماضي. المطرود الى ترجماته المتعددة، لعبة الأمم. لعبة شعبه. شعبه اللعبة. لبنان البطولات يجري محوها. بطولات البدء من صفر الآخرين. الذين لا تعرفهم ولا يعرفونك. الصم والبكم. لبنان الخبط عشواء. اليضحكون منك واليضحكون عليك. لبنان الذي تخبئ نفسك، عقلك، جسدك. الذي نسيته. لا تستطيع جولةً لتستعيده. لبنان أوطان الكلام. ترسانات الكلام الحديد. لبنان. الجاهلون. العارفون. المصفقون للقوي. الشتامون للضعيف. الهاتفون لمن يأتي. الراذلون لمن يرحل. لبنان الأبرياء. الفدائيون بلا لغة. لغة الدم التي تُنسى سريعاً. لبنان الضمائر في البراد. لبنان الانتظار. أصدقاء يسافرون كثيراً، يندرون. لبنان موعد مرة كل سنوات، يمضي العمر بلا انتباه. لبنان تسمية العام باسم الخاص، الكنايات الدائمة، لبنان. لبنانان بل ثلاثة، بل أكثر بلا لبنان. ويا أيها الذي أحبك ويحبونك، لا أعرفهم، أقدّرهم تقديراً، وهم يستحقونك، لا يعرفون التعبير، يدافعون، ينتظرون، يهجرون بالإكراه، يذكرون المنارات. في أهدابهم بقايا الضوء. لبنان حقيقة غير موضوعية. منارة دمهم. حقيقة ايمانية. نافورة الأوردة. نسغ الأرض، صمت شيء لم يحترق بالكلام - النار. ايمان بحداثة المشرق، بكنه المشرق، مشروع تحديث مهزوم. شهادة التغيرات واعلانها. لبنان رؤوس الجميع. لا يكون، لا تكون". صرختي المكتوبة هذه وصرخات غيري الشفهية، أيكون خليل رامز سركيس أرجعها الى ضوابط العقل وهدوء الروح والى ايمان يمنع الشك من الغلوّ؟ لعله فعل من خلال كتابه هذا عن معضلة الشراكة في اجتماعنا الانساني الممزق.