تشرق شمس يوم جديد على الدار في آخر القرية وقد احاطت بها الأشجار من كل اتجاه وبدت معالمها خفية فلا ترى الا بعد ان يعبر المرء طريقاً ترابياً تحفه ظلال اشجار الصنوبر عن اليمين واليسار، يمتد لمسافة ليست بالقصيرة لتقابله بعدها ساحة واسعة امام الدار وقد زينها حوضان من الزهور على جانبي المدخل فأعطت للمكان منظراً رائعاً وبثت رائحة زكية تبعث النشوة في الجسد. انه بيت العم عبدالرحمن الذي كان يعيش مع افراد اسرته التي تتكون من ثلاثة ابناء اضافة الى زوجته، كانت تلك الأسرة تعيش على ما تجود به مزرعتهم الواسعة والممتدة في كل اتجاه والتي تميزت بانتاجها من حيث الخضار والفاكهة، بل اخذت شهرة وذاع صيتها في كل القرى المجاورة لجودة محاصيلها، وهذا عائد الى ما بذله العم عبدالرحمن وأبناؤه من جهد ونشاط. ومع مرور الزمن وتقدم العم عبدالرحمن في السن راح يحمل على ابنائه ويدعوهم الى الجد والمحافظة على سير العمل وعدم التكاسل، لكن حرصه ضاع عندما دب الخلاف بين ابنائه حول تحصيل ثمن بيع المحصول ومن يملك الأحقية في القبض من التجار، ومع تطور الخلاف تراجع المحصول وقل الانتاج ولم يعد يجدي الكلام الذي يردده العم عبدالرحمن لأبنائه. ومع زحف الكبر عليه وضعف جسمه صار يخرج فقط الى مقدم الدار لكي يستمتع بمنظر الزهور ويحاول حسب طاقته الاعتناء بها. وفي احد الأيام اجتمع الأبناء وقرروا بيع المزرعة والانتقال الى المدينة. تعب السنين وشقاء العم عبدالرحمن يضيع. لقد نزل الخبر عليه فكاد ان يهلك من هول الصدمة. وفي نهاية المطاف وتحت وقع المشاكل والخلافات انصاع مكرهاً وهو يتألم، ووافق على رأي ابنائه. سوف يودع جزءاً من حياته. انها الأرض التي عاشت معه في كل لحظة، ومنذ شبابه ساهمت يده في بذر وحرث كل بقة فيها. انهم ينزعون قلبه وروحه. وداعاً أيتها الحقول الخضراء. وداعاً يا خرير الماء وزقزقة العصافير ورائحة الزهور مع الصباح. كيف سيتحمل فراق ما بناه عبر السنين؟ الآن يجرد من كل هذا. تجلد وصبر وحبس المرارة داخل نفسه. لقد انتهى كل شيء. عليه ان يخلي المزرعة لصاحبها الجديد. حملت امتعته الى عربة النقل، ودعاه ابنه الأكبر الى الركوب معه صوب المدينة، وعندما انطلقت بهم العربة نظر العم عبدالرحمن النظرة الاخيرة على مزرعته، عندها نزلت دمعة من عينيه حسرة لفقدها، شقت العربة طريقها الى دار ابنه الاكبر للاقامة، فقد أُعِدّ له ملحق خاص وضع فيه كل متطلباته وحاجياته، لكن، مع مرور الأيام شعر بالوحدة والملل، واصبح في حالة كئيبة، ولم يعد يبدي اي رغبة في الخروج كما اعتاد من قبل والجلوس في تلك الحديقة المجاورة للدار والتي رسمت في ذاكرته صورة الماضي، بل انه احياناً ينسى نفسه، ويقوم بتقليم بعض الأشجار وغرس بعض الزهور في تلك الحديقة حسب استطاعته. وفي احد الأيام عاد الابن الى الدار فلم يجده كالعادة، بحث عنه في ارجاء الدار لكن لم يعثر عليه، خالج الابن شعور بالخوف في ان يكون وقع له مكروه، وقال في نفسه: لم يبق سوى الحديقة انها المكان الذي يقصده عندما يشعر بالضيق، فتوجه اليها وبسرعة وراح يفتش عنه، ويا لهول الموقف عندما وجده ممدداً قرب مجموعة من الشجيرات وقد امسك في يده مجموعة من الزهور على مقربة من انفه وقد فارق الحياة. السعودية - عبدالله سليمان الطليان البريد الالكتروني [email protected]