بعد فيلمه الطويل الأول "سرقات صيفية"، وفيلمه الثاني "مرسيدس" الذي حققه في العام 1993 لحساب محطة "آرتي" الفرنسية - الألمانية، ولفت نظر النقاد، ها هو يسري نصرالله المخرج المصري الذي عمل سابقاً مع يوسف شاهين كمشارك في كتابة السيناريو وفي الاخراج، يخوض مغامرة سينمائية جديدة، متخلياً هذه المرة عن أسلوب السينما التقليدية ليتبنى تقنيات جديدة. والمغامرة هي فيلمه الجديد "المدينة" الذي صور عن طريق "الفيديو الرقمي" وحصد حتى الآن جوائز عدة، منها جائزة مهرجان لوكارنو وجائزة لجنة التحكيم الخاصة. ينطلق فيلم "المدينة" من قصيدة كتبها قسطنطين كافافي، الشاعر اليوناني الذي عاش في الاسكندرية، عند بدايات هذا القرن، متحدثا فيها، برنّة سوداء متشائمة عن المدينة المثالية التي لا يمكن العثور عليها أبداً، وعن السفر المجهض والهروب العبثي. "علي" الشخصية الرئيسية في "المدينة"، ويؤديها بشكل متميز، الممثل باسم سمرة، يعمل محاسباً في مجزرة حكومية في منطقة روض الفرج القاهرية، غير أنه لا يتطلع في حياته الى شيء آخر عدا عن أن يصبح ممثلا. لذلك ينخرط علي في فرقة مسرحية حيث يتنكر كل مساء تحت ملامح فرانكنشتاين، ويؤدي دوراً صغيراً على الخشبة. لكن لعلي طموحاته الكبيرة، اذ أنه يحلم بأن يصبح، ذات يوم، ممثلاً حقيقياً. في القاهرة تبدو الدروب مقفلة في وجهه. ناهيك بأن سوق روض الفرج سوف تقفل قريباً، وسيحول سكانها الى مناطق أخرى. في كل هذا، من الطبيعي، أن علي لا يمكنه أن يعثر على مكان له: لا مكان له في المسرح حيث يسخف كل مساء، ولا في أحضان عائلته حيث لا يفهمه أحد. ولا حتى، بين أصدقائه الذين على رغم حلمهم بالحرية يبدون على أهبة الانخراط في النظام الاجتماعي القائم. وحتى الحب لا يمكن أن يشكل مخرجاً لعلي، حيث يبدو لنا عاجزاً عن اقامة علاقة غرامية حقيقية. اذن، لا يبقى أمامه سوى الرحيل. لقد كان في امكان الحكاية أن تتوقف هنا، وكان في امكان الفيلم أن ينتظم من حول هذا البعد. كان في امكان يسري نصرالله ان يكتفي بسرد حكاية سفر لمهاجر مصري يترك وطنه متوهماً بأنه سوف ينجح هناك في البعيد، حكاية تشبه الوف الحكايات الأخرى لمهاجرين امتلأوا أملا ويقينا، وتمسكوا بأحلامهم، فلم يحصدوا سوى الاحباط وعدم فهم الآخرين لهم، فأهينوا ورفضوا، وعاشوا مستبعدين... وذلك لأن المدن تشبه بعضها بعضا، ولا تعثر فيها إلا على أنماط السلوك ورد الفعل نفسها، أنماط قائمة على العزل والاستبعاد، في بيئة يتعين فيها على المرء أن يجهد كثيراً لكي يعثر لنفسه على مكان. وليس ثمة أمكنة للناس أجمعين... غير أن هذا ليس هدف يسري نصرالله. فما يريد أن يقدمه لنا صاحب "مرسيدس" هنا، لا يمكن أن يكون حكاية سفر عادي لمهاجر. مهاجر نصرالله يتوجه الى فرنسا من دون أن يخامره أدنى شعور مسبق بأنه سوف يعثر هناك على عالم أفضل. انه يسافر، كما يشرح لصديقه أسامة، فقط من أجل ان يجد نفسه وحيداً المهم أن يكون وحيداً، بعد ذلك سواء أوجد في القاهرة أو في باريس لا تعود للأمر أهميته. انه يبحث عن نفسه. وسفره من مدينة الى أخرى ليس سوى رمز رحلته الداخلية الخاصة، بحثاً عن حقيقته، وعن هوية ذاته. من هنا فإن كاميرا يسري نصرالله تتبعه، تطارده، تسبر اغواره، تكشف بالتدريج لحظات تردده وشكوكه ومخاوفه، لتصل أخيراً الى لحظات حسمه. ان اللقطات الكبيرة - التي يخرج منها علي حقيقيا الى أبعد الحدود - تظهره لنا عارياً في وحدته، هشاً ضعيفاً في بحثه عن الحرية. وعلي، بين الحقيقة والكذب، بين الحلم والواقع، يصارع نفسه، ينظر الى ذاته، يسبر أغوار هذه الذات ويتأرجح بين اختياراته العديدة. وحين يصوره نصرالله، في لقطات عامة مع الآخرين، مع أهله، مع أصدقائه، مع حبيبته، يبدو لنا رحيله أمراً لا مفر منه. وذلك لأن الكاميرا تكشف كم ان علاقاته مع الخارج مزيفة. فعلي لا يشبه أبداً ما يعتقده الآخرون فيه، ما ينتظرونه منه. وهو لذلك عليه أن يختار بين أن يخونهم لكي يكون وبين أن يخون نفسه ليصبح جزءاً منهم، يصبح مثلهم. اذن، فإن علي حين يقرر الرحيل، لا يقرره لكي يهرب، بل لكي يعود لاحقاً بشكل أفضل. في باريس، يجد علي عملاً، لكن العمل الذي يمارسه يبدو أكثر ايلاماً من عمله السابق في المجزرة. انه الآن ملاكم في مباريات مغشوشة، مباريات تجبره على الكذب دائماً... على التمثيل دائماً. وهو هنا سرعان ما يكتشف الفارق بين الكذب والغش والتمثيل. فهو حين قبل هذا العمل، كذب على نفسه. اعتقد ان في امكانه أن يتشبه بروبرت دي نيرو، لاعباً في فيلم "الثور الهائج"، لكن هذا الشبه غير موجود. لذلك يتابع علي صراعه ضد ذاته. أما المدينة فانها، سواء كانت القاهرة أو باريس، تظل ذريعة صالحة لتصوير سفر علي في داخله، على ايقاع آلامه وضروب قلقه. ان القاهرة التي بدت لنا في أول الفيلم تعيش أقصى تغيراتها، تشبه باريس، حيث أن المنازل في "روض الفرج"، والجدران، وواجهات المخازن، لونت بشكل مقصود لكي تتسم بطابع متغير ومتحول وكأنها لوحة غير منجزة. وباريس، في القسم الثاني من الفيلم، صورت كذلك وكأنها ورشة بناء هائلة تعيش تحولاتها، باردة بعض الشيء، لاانسانية. ان معظم المشاهد التي تصور علياً في المدينتين، هي مشاهد داخلية تصور في بيوت روض الفرج العتيقة، أو في شقق باريس المسكونة بالقوة من قبل الذين لا بيوت لهم. ان ذلك كله يبدي لنا علياً مقطوعا عن العالم الخارجي. حيث لا نراه يتطور مع المدينة، وعلى ايقاع حركة علاقته بالمدينة. يبدو وكأنه يعيش قطيعة حادة. أما حياته الاجتماعية في باريس فتختصر عبر اجتماعات ولقاءات مع عرب آخرين لا يملكون أوراقاً ثبوتية، عمال سريين يبحثون عن حريتهم لكنهم في حقيقة أمرهم أرقّاء. تلك اللقاءات هي اللحظات الوحيدة التي يسمح فيها يسري نصرالله لنفسه بأن يترك علياً لكي يغوص، بين الحين والآخر، في حياة المهاجرين، ويومياتهم العادية ومستقبلهم الغامض. ويسري نصرالله، اذ يورد هنا وهناك حكايات اليمة، واحيانا عبثية، يذكرنا بالوضع السياسي في البلدان العربية المعنية: الوضع القلق والمقلق في الآن عينه. ومن هذه العينة حالة ذلك المثقف الفلسطيني الملتزم الذي يجد نفسه، غداة مفاوضات السلام، مرمياً خارج وطنه تطارده الشرطة الفلسطينية، أو حالة تلك الصبية الفلسطينية التي تجد نفسها، لكي تبقى مع زوجها، مجبرة على تبديل هويتها منكرة كليا انوثتها، مرتدية قناع مراهق أخرس، مضطرة الى الصمت لخشيتها من أن تخونها نعومة صوتها الانثوي. او أيضا حالة رشدي، ذلك الشخص الذي يعتقد انه بات "شندلر العرب"، لأنه الوحيد الذي لديه أوراق فرنسية وفي امكانه بالتالي ان يعيش حياة طبيعية في فرنسا، مريحاً ضميره، عبر اقناع نفسه بأنه يعثر على عمل لمواطنيه العرب لمساعدتهم لا... لاستغلالهم! في وسط هؤلاء جميعا، يبدو علي أكثر عزلة ووحدة، ومن جديد يكون عليه أن يختار. هنا، من أجل معركته الأخيرة، يقرر علي ان يخوض مباراة لا يغش فيها. قرر ان يباري عن حق وحقيق وألا يمثل. لن يكذب الآن، سوف يخوض لعبته ويتألم ويفشل وييأس. ويخسر علي المباراة، وهنا يسعى الى الرحيل من جديد. غير أن هذا السفر الجديد يتبدى أكثر صعوبة ومجازفة وايلاماً من سفره الأول. اثر ذلك كله، وبفعل حادث كاد يفقده حياته، يفقد علي ذاكرته، ينسى ماضيه كله ولا يتبقى لديه سوى بضع صور له كممثل، وسوى الشعور الغامض والمعقد الذي لا تفسير له، بأنه كان ممثلاً، ومن دون أن يتمكن من تحديد ماذا يعني ذلك حقاً. غير أن فقدان علي لذاكرته، يتيح له أن يولد من جديد. ولادة سوف تحوله الى رجل وبين المسشهد الرائع والسوريالي الذي يصوّر لنا علياً عائماً فوق سطح النيل مديراً ظهره الى المدينة النائمة، محاطاً بأصدقائه وهم يشربون ويحلمون بحياة أفضل، والمشهد الآخر الذي يصور عودته الى القاهرة واعياً يتمشى في أزقة حيه، تقوده أمه وكأنه طفلها الصغير، يرافقهما اصدقاؤه القدامى وكأنهم في موكب ديني، بين هذين المشهدين ندرك أن علياً قد تغير. علي ازداد وعياً وكثافة وقوة على الرغم من مظهره الساذج والقلق كإنسان فقد ذاكرته. انه الآن يبدو حقيقياً أكثر وقوياً أكثر... يبدو وكأنه قد تطهر وصار نقياً. ان هذه المسيرة التي يصورها يسري نصرالله مع كثير من التعاطف، كانت تستحق ان تصور بكاميرا 35 ملم، وذلك لأن التصوير بالفيديو الرقمي يعطي صورة مسطحة باردة تسيء اليه. ولكن خارج هذا التفصيل التقني، يبدو واضحاً أن "المدينة" يطرح علينا اسئلة قديمة قدم البشرية نفسها: كيف يمكن للمرء أن يصبح بالغاً؟ كيف يمكن له أن يتحرر؟ وكيف يمكن له أن يتماهى مع ذاته؟ عند بداية الفيلم، تجرى لعلي تجارب على التمثيل مع مخرج متسلط يحاصره ويستفزه ويهينه. يجابهه علي رغم ذلك كله، ما يجبر المخرج في نهاية الأمر على سؤاله: "لماذا تريد أن تصبح ممثلاً؟". لكن الجواب لا يأتي إلا عند نهاية الفيلم، حين يصبح علي ممثلاً في فيلم المخرج نفسه، وحين تصبح كلماته المختلطة المرتبكة ذات معنى. يقول علي: "حين أسير في الشوارع... لا شيء. حين اشتري علبة سجائر ثم اقفز داخل باص وأنا ألاحظ جمال فتاة عابرة. لا شيء، لا اشعر بأي شيء... ولكن حين أقول لنفسي إن هذا كله انما هو جزء من فيلم، وانني امثل، يصبح للأمور مذاق آخر... وأشعر بمذاق الحياة".