تطرقنا مراراً للدور الذي تلعبه اليوم شبكة انترنت في أرجاء العالم. فالخرائط والاحصاءات ترينا كم لا يزال انتشار الشبكة عديم التكافؤ بين القارات، موسعاً بذلك الهوة بين الدول المتقدمة الغربية ودول العالم الثالث، وطارحاً اسئلة عديدة حول التقنيات الجديدة التي لا تخترق جدار الفقر وضعف الامكانات. ومن جهة اخرى، هناك رؤية هذه الشبكة وهي تغدو شهرا بعد شهر، الحدث الشاغل لهذه الدولة او تلك من دول الجنوب التي تسمح لها بالدخول الى مجتمعها، من دون ان تخشى قيام انترنت باشعال فتنة داخلية، او خلق اضطرابات وبلبلة قد تهز الوضع المحلي وتفرض عليه العالمية. بيد ان الاصداء القادمة من دول كاليمن او من الجامعات الافريقية حول ما بدأت تقدمه شبكة انترنت لمجتمعات معزولة تاريخياً، او عاجزة عن دخول الحوارات العالمية، تفرض علينا اليوم الاقرار بأنه ضمن عدم التكافؤ في ارجاء العالم، تحمل شبكة الاتصالات آمالاً جديدة بربط الدول ببعضها البعض، عوضاً عن زيادة عزلتها. غير ان الهوة لا تقتصر فقط على التواجد الكمّي لانترنت بين القارات، بل تظهر ايضاً في نوعية الخطاب الذي تولّده الشبكة في مختلف المجتمعات الدولية. ففي الدول الغربية، يدور النقاش حول الصلة بين الشبكة وعنصر المعرفة - اية مجتمعات قادرة في مجملها على اعادة صياغة علاقتها بوسائل الانتاج؟ هل المجتمعات الحالية قادرة على اللحاق بالتغييرات التي تعد بها شبكة الاتصال؟ هل انترنت تقدم المعرفة، ام انها فقط مركز لتخزين المعلومات واعادة فرزها؟ وبالتالي، ما هي المعرفة: عملية عقلية يصعب على اداةٍ القيام بمهامها، وكيف يستحيل على انترنت، في توزيع المعرفة، الغاء الدور البشري، واي دور يجب ان تلعب الشبكة في المدارس والمعاهد؟ وعلى عكس ما عنونته ذات مرة صحيفة "نيويورك تايمز"، فان انترنت لا تبني "عالماً حزيناً ووجدانياً". فالدراسة التي بنت عليها وسائل الاعلام الاميركية هذه الاستنتاجات، لم تأخذ في عين الاعتبار المراكز الموجودة على الشبكة في تنوعها وتعدد ابوابها. الحديث يدور اليوم حول اهمية الدور البشري في استعمال انترنت في المدارس، على غرار الراديو والتلفزيون اللذين لم يقلّصا دور المعلم، بل، على العكس، زادا رقعة صلاحيته. فالشبكة، في آخر هذا القرن، تعبّر بوضوح عن العولمة، وما تمثله من غموض لفئات واسعة في المجتمع او من نقطة لا رجوع، وبالتالي هناك عبثية في رفضها او الثورة عليها. الا ان الاتصال في مفهومه لن يتقلص ليصبح مسألة تقنيات او معلومات. فهو ما زال مرتبطاً بالقدرة الانسانية على استيعابه. وقد آن الاوان للخروج من حالة الانبهار التقني للتفكير في بناء المجتمع عبر حسن استخدام شبكة الاتصال هذه، خاصة وانه حتى في مجال جمع المعلومات، لا تقدم الشبكة هذه الخدمة مجاناً من دون الأخذ في الاعتبار قوانين السوق والمنافسة الدولية في استخدام المعلومات للبحوث التي تجري في شتى الميادين. سؤالٌ آخر تطرحه المجتمعات الغربية على ذاتها حول انترنت: هل ستتحول هذه الشبكة الى ساحة ما بعد الحداثة في ما خص الهوية، حيث يشعر المرء انه خارج اطار الدول، وان بإمكانه القيام بما يشاء عبر جهاز الكومبيوتر، ام هل ستتحول الى مكان يوسّع حياتنا اليومية دون ان يضرّ بهوياتنا وشخصياتنا وعلاقاتنا بالآخر؟ اسئلة عديدة من هذا الشأن تدور في حوارات وخطب حول وسيلة الاتصال الغازية في محافل الدول الغربية. وهذه حوارات وخطابات شبه غائبة في علاقة العالم العربي، مثلاً، بانترنت، فكأن الهوة اعمق في مجال النظرة الى شبكة الاتصال بين الدول الغربية والعالم العربي مما في مجال دخولها وانتشارها بين مختلف شرائح المجتمع. احدى المجلات الاسبوعية العربية خصصت اخيراً عدداً من مواضيعها لانترنت. ماذا نقرأ؟ في عدد مخصص، بحسب غلافه، للمثليين الجنسيين ممن تصر المجلة على ادانتهم ونعتهم ب"الشاذين"، نعلم، حسب المجلة، ان عدد "الشاذين" في العالم العربي، كان ضيئلاً ولا ندري من قام بهذا الاستقصاء!. بيد ان استخدام شبكة انترنت الذي قامت به جمعيات "الشاذين" زاد من عدد أتباعها وجذب آخرين. وهكذا قفز عدد المنتمين الى هذه الجمعيات في الولاياتالمتحدة الى 2500 عربي، موثّقين علاقاتهم بأترابهم في العالم العربي "على قلّة عددهم بالطبع"، حسب المجلة المذكورة واحصاءاتها! اما في عدد مخصص ل"انترنت عند العرب" فنقرأ في مطبوعة عربية ان الشبكة الالكترونية تحولت الى سلاح بيد الجماعات الاسلامية المتطرفة، او ان سيداً كويتياً بحسب مقالة اخرى "يبث صوراً فاضحة لعشيقته على انترنت، وآخر يشوّه صورة صديق له ويرفقها بكلمات نابية...". ورغم ان مواضيع اخرى في هذا العدد تطرقت الى قضايا اقل شعبوية في مجال وسيلة الاتصال هذه، الا اننا ما زلنا بعيدين أشد البعد عما يدور اليوم في العالم من طروحات في هذا الشأن. كذلك تدور نقاشات الويب اليوم حول وصوله الى سن الرشد الاقتصادي. فمراكز انترنت لم تعد تريد ان تكون مجرد مستودع للمعلومات او ان تستأثر بالاعلانات من الصحف لتغطية نفقاتها، بل ان تحديها الاكبر الآن هو ان تغدو مركزاً للبيع، دون اللجوء الى الاعلان الكلاسيكي الذي لا يمكنه النجاح عبر الشبكة لما توفره هذه الاخيرة من معلومات قد تكذّب نص الاعلان. تحدي انترنت اليوم هو البيع عبر نصوص تظهر للقارئ موضوعيةً وغير مبتذلة. انها علاقة جديدة تبنى اليوم بين المصدّر والمستهلك عبر... مفهوم الجودة ومضمونها.