كان المشهد غريباً في ذلك اليوم في محطة قطارات برلين. فهناك كانت ثلة ضخمة من حرس الشرف التابعة للجيش النازي مصطفة بالقرب من بساط أحمر، يليق لونه بالضيف الذي تنتظر العاصمة الألمانية وصوله على أحرّ من الجمر. والملفت ان الضيف القادم يمثل بلداً ذا فكر كان من الواضح ان النازية، في جزء اساسي منها، قامت بالتناقض معه ولمحاربته. غير ان منطق الفكر شيء، ومنطق السياسة شيء آخر تماماً. منطق السياسة كان هو الذي كمن وراء ذلك الاستقبال الحافل الذي خص به فياتشسلاف مولوتوف، وزير خارجية الاتحاد السوفياتي في ذلك اليوم، في برلين النازية التي كان يزورها، زيارة ود وصداقة، في وقت كانت فيه المانيا هذه تخوض الحرب العالمية الثانية ضد الحلفاء. اذن، القطار الذي سيصل الى برلين في ذلك اليوم، الثاني عشر من تشرين الثاني نوفمبر 1940، كان قطار مفوض الشعب السوفياتي للشؤون الخارجية. وهو وصل بالفعل ليجد الموسيقى والصخب الاستعراضيين في انتظاره، وليجد في انتظاره فوق ذلك كله خواكيم فون ريبتروب، وزير خارجية المانيا، وهينريخ هيملر، احد كبار معاوني هتلر. ولن يفوت هذا ان يشير منذ لحظة وصول مولوتوف الى انه يُستقبل هنا بوصفه صديقاً لهتلر، كما بوصفه ممثلاً لستالين. اذن، خلال اللحظات الأولى لتلك الزيارة التاريخية، بدا واضحاً ان مولوتوف يجمع المجد من طرفيه. وبدا واضحاً ان العالم كله يترقب ما سوف تسفر عنه تلك الزيارة.... غير ان صخب واحتفالية الاستقبال، سرعان ما تحولا الى برود و"حوار طرشان" - حسب تعبير مؤرخي تلك المرحلة - ما ان تم اللقاء الأول بين مولوتوف وهتلر. اذ بدا واضحاً منذ ذلك اللقاء ان هتلر ليس لديه شيء ملموس يقوله. كل ما كان يريده من الزيارة ان تتم، ليوجه الى الحلفاء ضربة سياسية كبرى، يجعله يبدو وكأنه قادر على تحييد الجبهة الشرقية نهائياً، للتفرغ لسحق الجبهات الغربية والجنوبية. من هنا ركز هتلر حديثه كله على العموميات، اذ راح يتحدث عن "النظام العالمي الجديد" الذي يزمع ان يوطده شراكة مع ستالين، قائلاً: "ان بلدينا بلدان قويان جداً، ويوجد على رأسيهما زعيمان قادران على فرض ارادتهما على العالم اجمع". غير ان مولوتوف لم يأت الى برلين لكي يستمع الى مثل هذه العبارات التي لا تعني شيئاً على الاطلاق. لقد اتى مولوتوف وفي جعبته اسئلة تتعلق بقضايا شائكة وملموسة. لذلك، انتهز فرصة لحظات صمت فيها هتلر، ليبدأ طرح اسئلته وكان أولها: لماذا لا تزال قواتكم مرابطة في فنلندا؟ ومتى سوف توجهون اوامركم الى قواتكم، بالانسحاب من بلغاريا ورومانيا؟ بالنسبة الى مولوتوف، كان واضحاً ان اي كلام عن تقاسم النفوذ بين موسكووبرلين في عالم آنذاك، معناه ان تبتعد القوات الألمانية عن مناطق يفترض بها ان تعتبر مناطق نفوذ سوفياتية، اما اذا اصرّ الألمان على تجاهل مثل هذا الواقع، فإن هذا يعني ان هتلر يخادع ولا يريد اكثر من اكتساب الوقت، لكي ينفذ مخططاته البعيدة المدى. وكان مولوتوف يعرف ان الانكليز حذروا ستالين مراراً من هذا. وكان يعرف ايضاً انه ليس هنا ليكرّم بل لينقل الى ستالين معلومات ويحصل له على تعهدات، وإلا، فانه سوف يكون على موسكو ان تبدل مواقفها جذرياً. غير ان هتلر لم يسهل على مولوتوف مهمته، بل انه تجاهل اسئلته تماماً، وراح غارقاً في مونولوغ اضافي مكرر حول "النظام العالمي الجديد" وصداقته للشعب السوفياتي، و"الاشتراكية" التي تجمع بين النازية والبولشفية. وفي اليوم التالي التقى الرجلان من جديد. وهذه المرة بدل هتلر خطابه بعض الشيء... ولكن فقط لكي يتحدث عن "الانهيار القريب للامبراطورية البريطانية"، بيد ان مولوتوف راح ينتهز الفرصة لكي يعود الى طرح اسئلته العملية. وفي طبيعة الحال انتهى الامر بهتلر الى الغضب، وهو عبر عن غضبه في مساء ذلك اليوم نفسه حين امتنع عن حضور حفل العشاء الذي اقامه مولوتوف في مقر السفارة السوفياتية في برلين. والملفت ان الانكليز اختاروا تلك العشية لكي يشنوا على العاصمة الألمانية غارات كانت من العنف بحيث اضطر حضور الحفل للنزول الى الملاجئ. وفي الملجأ - كما سيروي مولوتوف لاحقاً - جلس فون ريبتروب الى جانب مولوتوف، وراح يتحدث من جديد عن "قرب امحاء الانكليز". وهنا بلغ السأم بمولوتوف ان التفت الى نظيره الألماني سائلاً اياه: "اذا كان ما تقولونه صحيحاً، فما هو مصدر هذه القنابل التي تنفجر في هذه اللحظة فوق رؤوسنا؟". الصورة ستالين وفون ريبتروب.