أثارت مقالتي "رسالة مفتوحة الى مدير اليونيسكو الجديد السيد ماتسورا" التي نشرتها كل من جريدة "الحياة" العدد 13383، الجمعة 29/10/1999، وجريدة "الجزيرة" العدد 9894، الأحد 31/10/1999 أسئلة لدى بعض القراء الذين هاتفوني مستفسرين عن الحكاية، لأن الأمر بدا لبعضهم كأنني في حملة دعاية لوطني المملكة العربية السعودية، من دون التفات الى المشاكل والمتطلبات التنموية الملحة في زمن اقتصادي وثقافي صعب، وفي زمن عالمي الثقافة لم يعد ممكناً فيه الانغلاق على الذات ومنع المعلومات ومصادرة الحريات، بما في ذلك حرية المثقفين في التعبير عن آرائهم ومواقفهم، فلصاحبي المثقف هنا، ولصاحبي المثقف هناك، هذا المقال. وهل أنسى؟ لليونيسكو، ايضاً. قلت في غير موضع من المقالة المذكورة ان هناك فرقاً بين التجريح والتعميم واطلاق الاحكام الجازمة على بلد وتاريخه وثقافته بأكملها من ناحية، وبين التعبير عن الرأي والموقف والنقد والنصح والمعارضة الواعية والمطالبة من اجل الخير والإصلاح من ناحية اخرى. فليس هناك فرد أو مؤسسة أو حزب أو حكومة أو شعب يمكن التصفيق والتهليل له طيلة الوقت، ويعمل بلا أخطاء ونواحي قصور. فالفرد الكامل والمؤسسة الكاملة والحكومة الكاملة والحزب الكامل والشعب الكامل لم يولد بعد في التاريخ وأنا شخصياً لا أجيد المديح أو الهجاء. وعبرت في المقالة المذكورة عن وجهة نظر شخصية، لأن اليونيسكو لم تلتفت جدياً الى مشروع الموسوعة العربية العالمية، وهو مشروع يحترمه كثير من المثقفين المنصفين، في الوطن العربي والعالم، ولأن بعض المجلات الاجنبية نشر عن سعي السعودية لشراء اليونيسكو وإغراء الحكومات والأفراد بالهبات والعطايا، ولأن بعض المثقفين الفرانكوفونيين المنتمين للثقافة الفرنسية أطلق بجزم وعمومية على ثقافة الناس في بلد بأكمله الصفة "ثقافة منقرضة". في السعودية - كما في أي بلد عربي أو اسلامي - أناس شرفاء منفتحو الأذهان ومتنوعو الثقافات يعملون بصمت، وهناك مثقفون وشعراء وكتاب، وسياسيون واصلاحيون، ورجال أعمال مستنيرون، ورجال أعمال غير مستنيرين يعملون في الغالب لمصلحتهم الشخصية فقط. وهناك خريجو جامعات كبرى في العالم، وهناك أشخاص ومؤسسات انجزوا أعمالاً ممتازة لا تحتاج الى دعاية. وهناك ايضاً أناس ذوو رأي واحد متعصبون لا يزال من بينهم من يكفر بعضه بعضاً، ويكفر الآخرين، مع الأسف. وهناك الى جانب كل ذلك أصناف شتى من البشر الكادحين. وليس كل هؤلاء ينتمون الى "ثقافة منقرضة"، سواء اتفق المرء معهم أو اختلف. والبلاد العربية والاسلامية النامية محتاجة باستمرار الى مزيد من: تطوير التعليم نوعياً وربطه بالحياة المعاصرة وسوق العمل، ومعالجة البطالة، وتحسين الإدارة، وتغليب المصلحة العامة، وإلغاء المحسوبيات، وصيانة المال العام، وزيادة الخدمات الصحية، وتنويع الاقتصاد، وزيادة فاعلية الانتاج الزراعي والصناعي، والاهتمام الجدي بالشأن الثقافي ودعمه وتشجيعه، والاهتمام بقضايا البيئة، والنمو العمراني المتوازن وظيفياً وجمالياً، ومحو الأمية الثقافية، وتعميق الشعور بالمواطنة في العالم وليس في الرقعة الجغرافية المحدودة، والنظر الى عمل الانسان وانتاجه وكفاءته وإعلاء قيمته وشأنه وتقويمه بناء على أدائه، واتاحة الفرص المتكافئة للناس من دون اتخاذ مواقف غير منصفه من البشر وغمطهم حقوقهم بسبب اختلافهم عن الآخرين في الدين أو المذهب أو الطائفة أو العشيرة أو الاقليم أو العرق أو الأفكار أو اللون، والتأسيس لثقافة التسامح وقيم الالتزام بالمصالح الوطنية الانسانية، والاهتمام بوضع الطفل والمرأة، والبحث العلمي المعمق والمبتكر، وغيرها عديد والقائمة تطول من الشؤون والقضايا الاجتماعية التي تنطوي على مشاكل واشكالات تنموية غير قليلة في عالم تقني واستهلاكي وتنافسي شرس، ومتداخل المصالح. وفي الثقافة العربية الاسلامية السمحة متسع للاصلاح. وعلى المرء ان يعبر عن تفاصيل كل ذلك - موثقاً بالأدلة والشواهد - بكل الوضوح والغيرة والمحبة والصراحة من أجل الناس والوطن، ومن دون اللجوء الى الاساءات. وعلى الهيئات الدولية ان تساعد من منطلقات انسانية دون املاءات أو شروط سياسية أو ثقافية. بالطبع هناك فروق عديدة في الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي بين البلدان في العالم العربي والاسلامي، لكن معظم مشاكله التنموية متشابهة غالباً في النوعية، وان اختلفت في الدرجة. والحكومات مطالبة بعمل الكثير دائماً، وكذلك المثقفون الرسميون وغير الرسميين، داخل السلطة وخارجها، والقطاعات الخاصة، ومعهم مؤسسات المجتمع المدني. الاخفاقات العربية والاسلامية المعاصرة - على تفاوتها في المجتمعات العربية والاسلامية لا تبرر وسم ثقافة عربية اسلامية في بلد ما أنها "ثقافة منقرضة"، الا اذا كان المقصود ان الثقافة العربية الاسلامية - وهي غالباً المرجعية الأوسع والأشمل لثقافة أي بلد عربي - بكل تاريخها المتنوع، الكامن منه والمشاهد، الغائب منه والحاضر، المعلوم منه والمجهول، المشرق منه والمعتم، وبكل معتقداتها السمحة وقيمها النبيلة هي - كلها - ميتة حقاً. وهذا خلاف الواقع، تاريخاً ولغة وديناً ووجداناً وتطلعات. وليس من باب التغني بالماضي القول ان للعرب والمسلمين اسهامات معرفية وعلمية وانسانية مؤثرة ايجابياً بعمق في مسيرة حضارة الإنسان، اسهامات يعرفها اليوم العلماء والمثقفون الغربيون أكثر مما يعرفها العلماء والمثقفون العرب والمسلمون. صحيح ان هناك نحو مليار عربي ومسلم، اليوم، معظمهم أميون وفقراء، ومشلولون في المعترك الثقافي والانتاجي الكوني الذي لا مجال فيه الا للتفوق المعرفي والانتاج القوي والاحتراف المبدع والسياسات المتقنة. ومع ذلك فثقافة هؤلاء تنطوي على امكانات هائلة كامنة، وثقافتهم أو ثقافاتهم المتنوعة، هنا وهناك، ليست منقرضة، لا بالمعنى الحرفي ولا بالمعنى المجازي. ألا يستطيع صاحبي المثقف، هنا أو هناك، أن ينظر اليهم كبشر فقط؟ بشر لهم ثقافات تختلف عن ثقافته ويعيشون مشاكل لا حصر لها. المسيرة طويلة وشائكة ومستقبلية باستمرار، يا صاحبي. والوضع - بالتأكيد - اكثر تعقيداً مما نظن أو نعرف حقاً، وعلينا كمواطنين في هذا العالم ان نتعايش بتسامح، ونتعلم باستمرار، ونتمثل ما نستطيع من المعرفة، ونتعاون، ونعمل بما نستطيع من اخلاص وحب وتضحية، ونقول آراءنا بصراحة واحترام. والحكم للتاريخ. أخيراً: - هل ستقوم اليونيسكو بتشجيع الموسوعة العربية العالمية لمصلحة أعداد هائلة من المدارس والجامعات والمؤسسات والمكتبات الفقيرة مالياً في بلاد عربية واسلامية في آسيا وافريقيا؟ الجواب عند اليونيسكو؟ - هل سيكف صديقي المثقف هنا، وصديقي المثقف هناك، عن الخلط بين التعميم من ناحية، والمعارضة الهادفة البناءة من ناحية اخرى؟ الإجابة عندهما! ولقد قلت رأيي، باحترام - كما أرجو. ختاماً لهذا الكلام، الذي طال وتشعب، لن أجد أفضل من مقطع ورد في رسالة كتبها الموسيقار الهنغاري الكبير فرانز ليست Franz Liszt 1811 - 1886 قبيل وفاته عام 1886، وأهديه الى صديقي المثقف هنا، وصديقي المثقف هناك: "كل واحد منهم ضدي على طريقته. الكاثوليك لأنهم يرون موسيقى الكنيسة التي كتبتها منتهكة للمقدس. والبروتستانتيون يعتبرون موسيقاي كاثوليكية، والماسونيون يعتقدون ان موسيقاي كنسية اكثر من اللازم. وبالنسبة للمحافظين أنا ثوري، وللمستقبليين أنا يعقوبي راهب دومنيكي قديم. أما بالنسبة للايطاليين، فإنهم - إذا كانوا يؤيدون غالباردي - فيكرهونني كمنافق، وإذا كانوا الى جانب الفاتيكان فإنهم يتهمونني بإحضار تمثال فينوس الى الكنيسة. وعند الموسيقي بيروث Bayreuth، لست مؤلفاً موسيقياً، وانما عامل علاقات عامة وترويج. الألمان يرفضون موسيقاي على اعتبار انها فرنسية، والفرنسيون كذلك يفعلون على اعتبار أنها المانية. وبالنسبة للنمسويين، أنا أكتب موسيقى غجرية، وبالنسبة للهنغاريين أنا أؤلف موسيقى اجنبية. واليهود يشمئزون مني، أنا وموسيقاي، من دون أي سبب على الإطلاق". ترجمة الكاتب عن مجلة New Hungarian Quarterly، خريف 1986. ذلك نوع من العزاء لأي مثقف يطلق صوته وانجازه الخاص في البرية. ولقد مضت دول وأقوام، ومضى معها المعارضون الشخصيون. وتأتي دول وأقوام، ويأتي معها معارضون شخصيون بطبيعة الحال. لكن موسيقى فرانز ليست بقيت وستبقى، تلك الموسيقى التي لم تعجب أحداً ذات يوم. * رئيس مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع. المدير العام لمشروع الموسوعة العربية العالمية - الرياض