في البداية، اوضح للسيد ماتسورا وللدكتور غازي القصيبي وللدكتور اسماعيل سراج الدين وللقراء الكرام ان هذه الرسالة متعددة الأغراض على نحو قد يبدو متنافراً: فهي تهنئة، وهي اعجاب بالمتنافسين الكبار الثلاثة الذين كسب السباق بينهم السيد ماتسورا. الرسالة ايضاً دعوة صريحة ومباشرة، علنية بلا مواربة، الى السيد ماتسورا واليونسكو الالتفات العملي المستحق الى مشروع الموسوعة العربية العالمية وتشجيعه. والرسالة، الى كل ذلك، تحمل بعض الآراء الشخصية في عدم فوز الدكتور غازي القصيبي وفي العمل الثقافي في المشهد العالمي. عذري في الفقرات القادمة المتنوعة ان الرسالة حرة غير بيروقراطية وتعكس وجهة نظري الشخصية، وتحاول الاخلاص للشأن الثقافي الانساني - على اختلافات تعريفات الثقافي - الذي لم يكن في يوم من الأيام أحادي الغرض، سواءً أُعلن ذلك أم لم يُعلن. خالص التهنئة للسيد ماتسورا بمنصب المدير العام لليونيسكو. فهو بخبراته وعلمه يستحق هذا المنصب. مع دعائي له بالتوفيق وخدمة التربية والثقافة والعلوم في جميع بقاع العالم. وحظاً وافراً للدكتور غازي القصيبي، والدكتور اسماعيل سراج الدين في كل ما يطمحان اليه، وكل منهما يستحق المنصب، ان لم نقل ان كلاً من السيد ماتسورا والدكتور القصيبي والدكتور سراج الدين اكبر من المنصب من حيث امكاناتهم الشخصية وخبراتهم. ولا بد من الاشادة الخاصة بالوضوح وبالإصرار والشجاعة التي ظهر بها الدكتور القصيبي في ادارة حملته الانتخابية للمنصب، على رغم ان المملكة العربية السعودية كانت في أحايين كثيرة عرضةً لسهام التجريح غير المبرر، قبل الحملة واثناءها. وكانت الحملة فرصة للدكتور القصيبي لتوضيح كثير من الأمور في الدوائر الخاصة والعامة. وهذه حسنة من حسنات ترشيح الدكتور القصيبي للمنصب. والآن وقد انجلت الهيجاء، وفاز السيد ماتسورا بجدارة واستحقاق، فاني من غير الآسفين على عدم حصول مواطني الدكتور غازي القصيبي على المنصب، لأسباب عدة خاصة وعامة أهمها: 1 - لو فاز الدكتور غازي بالمنصب، فان القراء سيخسرون كتاباً أدعوه الى كتابته بكل الصراحة الممكنة عن تجربته منذ الترشيح وحتى انتهاء الانتخابات مروراً بالحقائق والأعاجيب. ان معظمنا بعد الصخب، قد يتطلع الى قراءة اكبر قدر معرفي مشوّق ومثير من جوانب "الحكاية من الداخل" كما يقولون. في تقديري ستكون تلك رواية مثيرة حقاً، معلوماتية ووثائقية ذات اكثر من مغزى للثقافة وللتاريخ. 2 - لو فاز الدكتور غازي بالمنصب، لقال كثيرون ان حكومة المملكة العربية السعودية اشترت ذمم الحكومات والمؤسسات والمثقفين، ودفعت فانتصر المال، والمال وحده! 3 - لو فاز الدكتور غازي بالمنصب، فإني - شخصياً ومعي مؤسسة اعمال الموسوعة للنشر والتوزيع الجهة القائمة على دراسة مشروع الموسوعة العربية العالمية وتنفيذه لن نتمكن من الإلحاح على اليونيسكو لاقتناء عدد من نسخ الطبعة الثانية من الموسوعة العربية العالمية وتوزيعها باسمها على عدد من دول العالم النامي العربية والاسلامية الفقيرة، مدارس وجامعات ومعاهد ومؤسسات. سيكون الأمر محرجاً له ولنا - كجهة ناشرة - في المملكة. اما الآن والسيد ماتسورا سيباشر عمله قريباً، فاني اكتب اليه هذا الخطاب مهنئاً وسأتصل به، وأخبره - متفجعاً - ان سلفه السيد فيدريكو مايور وقسم النشر في اليونيسكو لم يشجعا مشروع الموسوعة العربية العالمية، واعتذاراً عن عدم شراء اي نسخ، ولا نسخة واحدة هل تصدقون؟، لا من الطبعة الأولى عام 1996م ولا من الطبعة الثانية التي صدرت مطلع عام 1999م. اخبرني قسم النشر في اليونيسكو على الدوام، رغم الإلحاح، ان لا موازنة لديهم لشراء اي كتب، الا بعض الكتب التي تساهم اليونسكو في نشرها. والأعجب ان قسم النشر في اليونسكو طلب من مؤسستنا أخيراً نسخة على سبيل الهدية لوضعها في مكتبة اليونيسكو! عجباً، كيف يمكن ان تعتذر اليونيسكو بموازنة نصف مليار دولار عن عدم شراء بضعة آلاف من النسخ من مشروع رأى فيه مديرها العام السابق السيد فيدريكو مايور فور صدور الطبعة الأولى من الموسوعة 1996م الآتي: "ان اصدار هذه الموسوعة يؤكد ان العالم العربي الاسلامي على مشارف الألف الثالثة الميلادية يستطيع ان ينجز عملاً يضاهي كبرى الموسوعات العالمية المعاصرة… وترى منظمة اليونيسكو في الموسوعة العربية العالمية دليلاً على قدرات المملكة". قاله السيد مايور في خطابه في احتفال خاص بصدور الطبعة الاولى من الموسوعة العربية العالمية 1996م، سعى اليه - مشكوراً - الصديق الأستاذ الدكتور محمد احمد الرشيد في مقر اليونيسكو بباريس في حضور اعضاء المجلس التنفيذي بعدالتنسيق معنا بالرياض. ومع ذلك، يحلو لبعض المثقفين من ذوي الاحكام الجازمة ان يقول، بلا تمييز وبعمومية تتقصد الإيذاء، ان المملكة بلد لا يهتم بالثقافة على الإطلاق! ومع ذلك ايضاً، لم تشتر اليونيسكو أي نسخة من الموسوعة، لا من الطبعة الاولى، ولا من الطبعة الثانية، بدواعي الموازنة رغم ان المملكة لم تتخلف عن دفع حصتها المالية لليونيسكو. ومع ذلك ايضاً، فاليونيسكو تدعم وتشجع الثقافة والعلوم والفنون في جميع انحاء العالم، وبخاصة العالم النامي الذي شاء الله وشاءت الظروف والسياسات ان يكون معظم العرب والمسلمين منه! ليس المقام هنا مقام التعريف بالموسوعة العربية العالمية فهي عمل سمع عنه قطاع واسع من المثقفين والمتعلمين في جميع ارجاء العالم العربي. لكنه قد يكفي القول هنا ان هذا العمل مبادرة من سمو الامير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود في 30 مجلداً 17000 صفحة، متوسط حجم المجلد 566 صفحة، ومواده البحثية تربو على 1030 الف مادة، وصوره وايضاحاته وخرائطه على 18000، وشارك في انتاجه اكثر من 1000 عالم وباحث ومؤلف ومترجم ومراجع علمي ولغوي من جميع البلاد العربية. وهو عمل غير مسبوق من حيث الحجم والمنهج والأغراض على الساحة العربية والاسلامية. وهو مرجع موسوعي عربي اسلامي عالمي شامل، يتوخى النزاهة والمصداقية والشمول والتوازن والحوار البناء بين الحضارات. وهو ضروري للمدرسة والجامعة والمؤسسة والمعلمين والمثقفين. ولا بد من القول ان معظم ريع هذا المشروع يمضي الى تطوير المشروع نفسه والى اعمال الخير ممثلاً في مؤسسة سلطان بن عبدالعزيز آل سعود الخيرية، الجهة الممولة والمشرفة على المشروع. ومن المهم ان يقرأ السيد ماتسورا هذا الخطاب المفتوح بعد ان يُترجم له، فيرى - كما يُرجى - ومعاونوه وأهل الاختصاص الذين يعنيهم الأمر قيام اليونيسكو بشراء آلاف النسخ من الطبعة الثانية من الموسوعة العربية العالمية لتوزيعها على المدارس والجامعات والمعاهد والمؤسسات في البلاد الفقيرة مالياً في العالمين العربي والاسلامي، بالاسم الانساني الثقافي العالمي لليونيسكو. وأملي في سعادته كبير. 4 - لو فاز الدكتور غازي القصيبي، لزادت الحساسيات العجيبة بين بعض الحكومات العربية والاسلامية، تلك الحساسيات التي لا تسعى ولم تسع المملكة العربية السعودية في إحداثها او زيادتها، ولا يسعى ولم يسع الدكتور القصيبي في نشوئها، ولا يسعى ولم يسع المواطنون السعوديون في تأجيجها. 5 - لو فاز الدكتور غازي القصيبي، فانه سينفتح سوقٌ امام بعض المثقفين العرب وغيرهم، وستروج الى حين بضاعة الهمز واللمز والقدح والتسفيه. وسيصحو هؤلاء وينامون - وقد لا ينامون - على لحن واحد، وكأن ليس في المسعى الثقافي الانساني النبيل غير هذا اللحن، لحن الإساءة بإطلاق وتعميم، احياناً من باب الانحيازات والمواقف المسبقة، واحياناً من باب الجهل، وأحياناً من باب التعصب للرأي، واحياناً من باب الابتزاز. وهناك فروق بين النصح والمعارضة والنقد والمطالبة والالتزام بالمواقف الشريفة من اجل الخير والاصلاح والكمال لله وحده، وبين فتل العضلات وإدعاء البطولات وتعميم الأحكام وإثارة الفتن والزعم بامتلاك الحقيقة المطلقة. فاز السيد ماتسورا فوزاً باهراً مستحقاً. ولا بد من ان يكون كثير من المثقفين في المملكة العربية السعودية والبلاد العربية والاسلامية فرحين بذلك، يدفعهم الى ذلك اعجابهم ببلاد الشمس وثقافتها وتاريخها وأدبها العظيمين والنجاح التعليمي والتقني والصناعي والمالي الذي حققته منبثقة من الدمار بعد الحرب العالمية الثانية. وهناك عمل شاق ينتظر السيد ماتسورا، ومن المؤمل ان يرتفع صوت اليونيسكو وفعلها وتصبح ذات حضور فاعل اكبر في المجالات الثقافية الانسانية المتنوعة. اليابان قادرة مالياً على كسب بعض تحديات ومتطلبات العمل الثقافي لليونيسكو في زمن متداخل المصالح ويحتاج اكثر من اي وقت مضى الى حوار وفعل ثقافي انساني يقوم على الاحترام والمحبة والسلام وصالح الانسان روحياً ومادياً. وبطبيعة الحال فاليونيسكو منظمة عالمية تحتاج الى دعم مالي ومعنوي من جميع الدول المقتدرة في العالم، وليس اليابان وحدها. هناك في العالم اليوم فقر وحرمان ثقافي لا يقل خطورة ولا تعقيداً من مجرد محو الأمية الهجائية ومحو امية الكمبيوتر، وصيانة الآثار. وهناك ثقافة عالمية جديدة تتشكل من خلال الفضائيات والإنترنت. ويتوقع من اليونيسكو ان تساهم في التأثير الكمي والنوعي لهذه الثقافة العالمية مسرحاً وموسيقى وسينما وأدباً وأعمالاً علمية وابداعية اخرى، لصالح الانسان من دون الاستسلام لمنطق الربحية التجارية السائد في المساعي الثقافية. ليس من احد يجادل اليوم في سيادة مفاهيم السوق ومنطقها في الانتاج الثقافي، كما انه لا يستطيع احد ان يحجر او يحارب او يمنع المنتجين والمستهلكين من النظر والتعاطي مع الأعمال الثقافية كبضاعة، كما لا ينبغي مصادرة حرية الانتاج والاستهلاك. لكن الذين فرقوا بين الثقافة والاقتصاد والسياسة كانوا مخطئين، بقصد وبغير قصد. ولعل اليونيسكو تتوجه بمزيد من الواقعية والحزم نحو مزيد من الانتاج الثقافي وتوزيعه في العالم بأسعار مالية مشجعة تغطي التكاليف، وتضمن استمرار الانتاج الراقي شكلاً ومضموناً وتنوعه. هناك احتمالات اعمال كثيرة اكثر عدداً وتنوعاً مما انتجته ورعته اليونيسكو حتى الآن يمكن تبنيها ودعمها في عالم النشر والموسيقى والمسرح والسينما والفنون الاخرى والعلوم والتربية. ويحتاج هذا الى موازنات هائلة ودراسات وتخطيطات ومتابعات واشراف وهو صعب التنفيذ لأسباب عدة، لكن اليونيسكو، مع ذلك، قادرة على الابتكار وانجاز عمل غير قليل في هذا المجال المليء بالتحديات. لا بد من رؤية جديدة، ولا بد من فعل جديد وتعامل واقعي مع ما يموج في المشهد الثقافي العالمي - الذي هو واحد ومذهل التنوعات - وما ينطوي عليه من روائع وانجازات ممتازة، وما ينطوي عليه ايضاً من عنف وفوضى وفقر وحرمان ثقافي انساني لملايين البشر. الثقافة الجادة الرفيعة مطلب حضاري لحماية الوجود الثقافي النبيل لسكان الكوكب، وهو وجود ثقافي انساني واحد رغم الخصوصيات والتنوعات والفروقات البادية على السطح فقط. كما هو معلوم، لا يستطيع احد او منظمة او دولة ولا مجموعة دول، أياً كان شأنها، ان يخطط لمظاهر الثقافة العالمية وتشكلاتها بالقلم والمسطرة وضع الاهداف وبرامج العمل، فقضايا الثقافة وتشكلاتها اكثر تعقيداً كما يعلم المختصون. لكن المطلوب في هذا الخضم العالمي المائج هو مزيد من الخدمة الثقافية النبيلة والمخلصة للانسان، بأسعار زهيدة لملايين البشر المحرومين، من دون املاءات قسرية، سياسية او حضارية. اني واحد من الذين ينتظرون من اليونيسكو بقيادة السيد ماتسورا عملاً كثيراً ومتنوعاً وفاعلاً ملموساً. للسيد ماتسورا ومعاونيه وكبار المسؤولين في اليونيسكو خالص التحية. * رئيس مؤسسة اعمال الموسوعة للنشر والتوزيع. المدير العام لمشروع الموسوعة العربية العالمية - الرياض.