ترزح قصصُ جنان جاسم حِلاَّوي تحت وطأة حياة متعثّرة ماثلة كالطيف المقيم في أرجاء المجموعة لا يبرح. وتتعدَّد مراياها بتعدّد الأمكنة التي عاشها منجّماً أو مجنَّداً أو ثائراً أو هائماً أو منعزلاً أو متصعلكاً وسواء كان ذلك في البصرة وأهوارها أم في شقوق الجبال وتلافيفها، أم في الأزقة تلفه ويلفّها، أم في المخيّمات الفلسطينية، أم في غرفة أسفل المدينة، أم في سجون مدن "قارّتنا المزركشة بدانتيل الحروب"، أم في مدن خانقة جنوب القطب الشمالي حيث قبع أخيراً ليعيش "مكسوّاً بالظلال متلفّعاً بها". ومما يكرّسُ هذا الاعتقاد سهولة ردّ كل قصة الى مرجعيّتها المكانيَّة من دون كبير عناء، والحضورُ الراسخ لضمير المتكلّم في المجموعة كخيط السُّبحة الجامع اللامّ، ومراوحةُ القاصّ في مكانه الكتابيّ استنباشاً لمخزون ذاكرةٍ غذَّته المنافي والتجارب والمتاهات بكلّ الأخيلة لا يريمه إلاّ استحضاراً لواقعٍ سديمي يراه بعيونٍ داخلية لكائن سورياليّ "لا يقع في الواقع ولا في الجنون، إنما بينهما" وفق تعبير حِلاَّوي نفسه. ويتحرَّك بندول السَّرد عنده بين هذين "الطقسين" بتواتر متكرِّر في كلّ مجموعةٍ أقلّه منذ بداية التسعينات. حتى أن البحث عن البنية الجماليَّة في النصوص لا يفضي إلاّ الى انزلاقٍ مُودٍ الى اللازمة عينها: السِّيرة والاستيهام" لكنّه يحيل دوماً الى اللغة التي كأنّها، لفرط شتات الأمكنة، باتت وسيلة قرار ليستعيد بها الرجل "مكانه القديم المحجوز في وهم النفس ويحافظ عليه خوف أن تفقد ماضيها فتتيه"، وليحملها في حلّه وترحاله محوِّلاً معيشه الجسداني والتخييلي الى قصٍّ مسكونٍ بحركة الرقَّاص إيّاه. ويعرِّف حالَهُ "أبو الجن البصريّ" مرَّة بأنه "كيميائي كلمات ورحّالة أحلام... تعلّم أن يغامر في اللغة أي أن يجعلها أدوات تجريبية في يديه" يتنازعها جاذبان: الحسّ والوهم. فلغة حلاوي ذات حواس خمس تسمع وترى وتتلمّس مسامات الوجود العينيّ بأشدّ ما تستطيعه من التقاط لتعبِّر عن هذا الجدل المتعِب بين الواقع واللامعقول حتى أنّها لتتساءل مراراً عن هويَّة حضور الواحد منهما من الآخر. تُستهل المجموعة بقصّة فرار ضابط سجين أسره الثوّار الأكراد، ومطاردته في قلب طبيعة جبليّة شكّلت مشهداً بانوراميّاً تعقبته اللغة كأنها بالأبعاد الثلاثة لا يفتر ايقاعها إذا صغُر التفصيل "كسقفٍ طينيّ مضفور بالأغصان والجذوع وخشخشة الأفاعي والفئران اللابدة والخاتلة في فطور أعمدته" على المثال، أو إذا عظم "كجيل قنديل العجوز الغاص بمويجات الانثيالات الثلجية طبقات طبقات في عتمة الليل المنوَّرة بفضّة الثلوج اللطيفة والشبيهة بطبشور الفجر..."، ولغةٌ كأنّها للمرئيّات "أزياح واد تمضغه الدكنة... شقّ مكتنز بأشلاء الصخور..."، والسمعيات أيضاً "طقطقات أخشاب البلوط المحترقة... بربرات وآهات وانّات وغمغمات تندفع من أفواه ثوّار نائمين... قضقضة الفحم المتأجّج... تكتكات انهمارات الثلج... هسيس الدَّعس الجليدي...". انها استعادة بعدسة الذاكرة لانفعالات مرحلةٍ عاشها هذا المتشرد العراقي فعلاً حيث عبر الخفاجية الإيرانية الى قرية ناوزنك على ظهر بغل ثم مشى الى قرية بيشتاتسان ليتسلَّق جبل قنديل الشاهق الى مدينة سردشت الإيرانية وذلك بعد خروجه من البصرة قبل ثمانية عشر عاماً كما كتب أخيراً تحت عنوان "عابر المدن". وأما الفارّ فيُستعاد لتتم مبادلته بعد حين بثائر أسير "عُدنا به الى وادينا المزركش بمنمنمات الربيع، وطوتنا الجبال هي الأخرى بين جدرانها السرّية المنافذ وأشجارها الملتذّة بشمس نيسان ابريل وقراها الساهية في أركان الصخور". نهاية تلائم شعوراً بالحرية سرعان ما يتوارى خلف ظلال "غرف مشابهة تفضي اليها سلالم مغبّشة الأضواء في مدينة شبه خالية ومتجهّمة"، وهذا ما يهيّىء الجوّ لحدثٍ عجيب يقع "في هدوء مكان يشي بالتوقع والترقب"، وهو، للمناسبة، عنوان القصّة الثانية في المجموعة. انه الهلاس هذه المرّة. فالمكان يشي أيضاً "بالكآبة والخوارق" تحدث في واجهات المحلاّت الزجاجيّة حيث "وجهي يطالعني كئيباً رمادياً طويلاً وقصيراً تارة"، وفي الأحلام حيث "جثم منام عليّ كأجمة اكتنفها ظلام معاد"، وفي الغرفة رقم 105 حيث "دهمت النباتات بأوراقها وأغصانها وسويقاتها الغرفة كلّها خالقة منها دغلاً حقيقيّاً". ولا ينفع فرارٌ لرجلٍ قواه واهنة وروحه قفر وعقله أعشاب مهجورة وبه رغبة للصراخ مكبوتة يكتشف بهلع أنه ظلُّ ميتٍ في عالم بميسوره أن يجعل منه ممسوساً. انه المنفى تروح اليه عبر سموات وبلاد واسعة ليستقرّ بك بين جدران أربعة حيث "اختفى أثري تماماً ولم يعد لي ذكر في ليالي تلك البلاد التي لم أستطع مغادرتها على الإطلاق". وهي نهاية تلائمُ شعوراً بالعزلة. والعزلة مرتع التوهم "ان عبوري الدائم من العراء الى أمكنةٍ محاطة بالجدران وبالعكس ولَّد لديَّ شعوراً بأنني أتخيَّل الأمكنة وأصنعها...". يقول "عابر المدن". ولديه من حضور الماضي ما يكفي لاستحضار الأمكنة أيضاً دون اقتصار على المخيَّلة في تركيبها. وتتوالى قصص المجموعة بتغيُّر محطات الخطر والارتحال في "عبور متعدد بين الأمكنة المتحضرة والبدائية" من البصرة وجبهاتها الى بابل المدن الحديثة، ومن مخيمي عين الحلوة والمية ومية الى "كوابيس تلد بعضها بعضاً كخلايا الأميبا المجهرية" في سجن مدينة النوم والصمت والقفر. ودائماً بروحٍ ساخرة خصّبتها المأساة الفاتكة بشعوبٍ مشرَّدة حوّلتها "أحلام قادتها" الى جماعات ترزمها الهيئات المختصة بالمشردين وترميهم الى أسوج ونروج وبلاد الدان. وهي سخرية ترهص بسوداوية مرة لا تعوزها التجلّيات الفاقعة كان يستحكم بالمنفي الشعور بأنّه غير موجود ناسياً أنّه يتنفّس، أو حتى كأن يصير كلباً مصاباً بأم الحبوكة البارانويا فيقدّم طلباً للبوليس للعمل ككلب بوليسيّ جوّال... قصّتان تشذّان عن تلك المراوحة وتنفردان بزمن كتابتهما ومكان توقيعهما. انهما الرابعة والخامسة اللتان كُتبتا أوائل الثمانينات في البصرة ودمشق حين كلّ الباقيات كتبت في النصف الآخر من التسعينات في أسوج. والقصّتان مدموغتان بطابع ايحاءات المكان. احداهما تدور في مقبرة الزبير حول جثّة السيّاب، وتسكنها روح الشاعر "المنسيَّة العارية المعلَّقة على طرف هلال الجامع، وحيدة إلاّ من ألمها وعذابها، يغسلها المطر فتتطامن خافقة في الفضاء..."، يبعثها حلاوي من الموت لترى بأمّ عينها فضيحة أمَّة شغوفة بالجهل والاستبداد محقِّرة الحرية والأحرار. وأما الثانية فمكلَّلة باليُتم. لا هي مستلَّة من سيرة حياة ولا هي مخبولة بمتاهات المدينة، وإنّما هي وليدة فنّ القصّ المحرَّر من وطأةِ القسوة، تلتقط بدورها حِلاَّوي في اللحظة التعبيرية قبل ولوجه باب الجحيم إذا ما أخذنا بدقّة تاريخ توقيعها ومكانه: البصرة 1980. الغبار يُغرِق تفاصيل البيوت البعيدة والنخيل والجوامع في أثير عجاج... الطيور التي أحبّها حيدر ضربها الجدري... يقرّر الأب إحراق برجها... فيسمع حيدر في يقظة ساهمة بحّات مختنقة لصدور امتلأت بالدخان وأقداماً تدبّ في السخام المشتعل، ومناقير تتفطّر في الرماد... انها لحظة فزَعِ طفلٍ الى ملاذ يحميه من الوحشة والجمود وقد افترس الموتُ طيورَه الجميلة بالنار. يمضي حيدر الى ريشة طاووس تضمها صفحات كتاب أصفر الورقات. يأتي بالسُّكَّر من مطبخ البيت وينثره فوقها مردّداً بصوتٍ خافت: كُلْ يا طاووسي حتّى تكبر... كُلْ يا طاووسي. واللغة هنا تغور لالتقاط مشهد المدينة والمحلَّة والخطر الداهم وغوص طفل في بُحران ارتباكات شتّى وهذا الحنين المضرَّج بالرؤى يولِّدها الأسى وكوَّة الفراغ وخالص الوجع. انها لحظة تُقَصُّ بتوتّرٍ يتكاثف دون تموُّع مُكملاً دائرته بمشهد غبارٍ كان في المستهل يغمر المدينة بأوشحة ترابية فبات في السطور الأخيرة ينكت ذروره رويداً رويداً على أرواح ناسٍ هائمين. والقصّة بهاتين الصورتين اللتين تُطبقان على روح طفلٍ كَلَمَها الألمُ والخسارة تقربُ من تحقيق "كلّية الأثر" التي تحدَّث عنها بودلير من حيث أنّها ميزة عالية يستأثر بها فنّ القصّ الروائي الفسيح. بين البصرة وأسوج عقدان من الرحيل والانتقال والخطر والمغامرة حيث "تتكوَّن الحكايا وتولد القصص لتصبح الأمكنة حاضرة في ولادات قصصيّة لا تنتهي..."، كأنّها لا تمنح "العابر" فسحة التقاط حلم الكتابة الكبير. فخلَل سطور قصص حلاَّوي إرهاص بذلك الحلم تشير اليه قُماشة عباراته المشبعة حيناً بجزالة أسلوب سردٍ روسيّ من التاسع عشر، وفي كلّ حين بنزوعٍ سورياليّ يتأرجح بدوره بين روح قصٍّ بووية نسبة الى ادغار الخابو، ونزعةٍ "سنجابيَّة" الى التركيب الفانتازي الذي أودى بالقاصّ يوماً الى إطلاق "الهه الشعريّ الحبيس". والآن، في هدوء "جنوب القطب الشمالي" يستريح "أبو الجن البصري" من ماضيه الذي "بات تكويناً عقليّاً يدعو الى الضحك واللامعنى لأن الأمر لم يكن يستحقّ كل ذلك العناء، عناء القتال من أجل أشياء زائلة وتالفة". كما يقول. ويكتب ما أملته الحياة وما يُشبه رواية هي حِلاَّوي ذاته، فكأنّه يؤوب الى ريشته المستلَّة من طاووس الكتابة بعد احتراق الأحلام قائلاً لها: كُلْ... كُلْ يا طاووسي حتى تكبر!! * جنان جاسم حِلاَّوي، كُلْ يا طاووسي حتى تكبر، قصص، دار المنفى، السويد، 1999.