ما زالت النتائج المروعة للزلزال الذي ضرب شمال غربي تركيا في 17 آب اغسطس الماضي تتفاعل بشدة داخل المجتمع التركي. وما زال العالم، الذي يقر بأن التقدم العلمي الهائل لم يستطع منع الكوارث الطبيعية وان تمكن من الحد من آثارها المأسوية، يحاول ان يستخلص الدروس البليغة للزلزال. ورغم تصاعد حدة النقد والغضب الشعبي على تقصير الدولة والفساد، الا أنها لم تسفر عن استقالة أي مسؤول، اذ اكتفت السلطات بعقد جلسة خاصة لمجلس النواب صدر بعدها بيان مقتضب يشكر كل من قدم المساعدات لمتضرري الزلزال. وكان الناجون من الكارثة قد هتفوا ضد رئيس الدولة سليمان ديميريل عند زيارته منطقة الزلزال بعد بضعة أيام على حدوثها. ويقال ايضاً ان رئيس الوزراء بولند أجاويد لم يتمكن من الخروج من سيارته عند زيارته موقع الكارثة بسبب هتافات الاستهجان والاستنكار التي حاصرته. ومنطقة الزلزال، من أكثر مناطق تركيا تطوراً وكثافة سكانية. وتقدر خسائرها المادية المباشرة بأكثر من 40 بليون دولار. وفيها مدن رئيسية مثل اسطنبول، أزميت القريبة من مركز بؤرة الزلزال، ادبزارا جولجوك مقر البحرية ويالوفا، وكلها تقع على خط التصدع الجيولوجي. والمنطقة توفر 75 في المئة من اجمالي الانتاج الوطني، ففيها أهم الصناعات التركية خصوصاً البتروكيماوية، الغاز، الألبسة والأغذية ومصافي النفط، ولذلك جذبت العمال من كافة أنحاء تركيا. وهي تتميز بشبكة مواصلاتها واتصالاتها المتقدمة وتعتبر أهم منطقة للسياحة والاستجمام في البلاد. لقد التقيت مؤخراً الدكتورة صدى اوزن، وهي تركية وكانت في بيتها في اسطنبول حين وقوع الهزة الأرضية، ثم توجهت الى المناطق الأكثر تضرراً للمساعدة وبالإغاثة والترجمة لفرق الانقاذ الاجنبية. والدكتورة اوزن باحثة في علم الاجتماع ومطلعة عن كثب على الأوضاع في بلدها. ابتدأت اوزن باعطاء خلفية عن الموضوع وتجربتها المرعبة في اسطنبول التي خسرت اكثر من ألف قتيل، وبعدها نقلت عن شهود عيان شاهدوا الانفجار البركاني الذي وقع بعد الهزة مباشرة في خليج أزميت - جولجوك: "أصبح لون السماء بلون الجمر وانقسم البحر قسمين مثل زمام منزلق، قسم دخل الى اليابسة وجرف جزءاً من الابنية والفنادق والمقاهي التي أصبحت كلها مطمورة تحت مياه البحر، وتلت البركان موجة زلزالية محيطية - المعروفة بالموجة السونامية - حيث امتدت المياه بعلو مترين الى ثلاثة في منطقتي أزميت وجولجوك، ولولا وجود الخليج الذي حد من قوتها لابتلعت المدينة كما حدث مرة في اليابان. ما حدث كان رهيباً وكأن الجحيم فتحت أبوابه! ومع انهيار الأبنية انهارت المؤسسات الحكومية العفنة وابتدأت تنفث السموم! غابت الدولة في الأيام الأولى وكانت هناك مبادرات من الأفراد والمنظمات الأهلية ذات الامكانات المحدودة، كذلك من بعض النقابات بخاصة في مجالي الصحة والنقل وتطورت هذه المبادرات مع وصول الفرق الاجنبية. وبرزت جمعية "قوت" التطوعية، وهي الجمعية الوحيدة للدفاع المدني في كل تركيا، تأسست بعد زلزال العام الماضي، وكان دورها متميزاً واكتسبت ثقة الناس، وهي التي بادرت الى المشاركة بعمليات الانقاذ بعد زلزالي اليونان وتايوان. الكارثة خلفت صدمة وذهولاً، فيما تقاعست اجهزة الدولة. لم يهتم الجيش إلا بأفراده. فقد انهار مقر القيادة البحرية وقدرت الخسائر بحوالى 300 قتيل. ففي ليلة الزلزال كان هناك احتفال كبير لتقليد الرتب العسكرية وتغيير الطاقم المناوب. كانت مساهمة العسكريين سلبية خصوصاً في البداية حيث تصرفوا بعنجهية وقلة حساسية، فمثلاً بينما كانت فرق الانقاذ الاجنبية تقوم بالتفتيش عن الناجين بحذر ودراية مستعملة الميكروفونات، استعمل الجيش الجرافات التي كانت تسقط احياناً ما تبقى من البناية. رأينا جنازات العسكريين تسير، كل جثة في تابوت وأمامها الأزهار ومعها كل المراسم التقليدية. وفي المقابل حفروا الخنادق ورموا فيها جثث المدنيين الموضوعة في أكياس النايلون. رموها بالجرافات دون حملها بالأيدي ومن دون أي احترام للدين وللعادات. هذا ما حدث للكثيرين وبالأخص ممن لم يتبق أحد من عائلاتهم. فهناك عائلات انقرضت بكاملها اذ كثيرة هي العائلات الممتدة التي تعيش في البناية نفسها. احتج الناس على هذه الهمجية ورددوا هتافات تناقلتها وسائل الاعلام "احترموا موتانا"! جزء كبير من الانقاض والمناطق المدمرة لم يلمس حتى الآن وهناك اكثر من 30 ألف ضحية تحتها. من يصدق ان الجيش التركي لم يستطع ان يخمد النيران التي اندلعت في مصافي النفط؟ بداية قالوا انهم تمكنوا من حصارها وبعد ان امتدت الى سبع مصاف أعلنوا أنهم ينتظرون فريقاً اسرائيلياً للمساعدة بإخمادها، وهذا ما حصل. وكان يمكن ان تسبب النيران كارثة رهيبة في المنطقة المليئة بالمواد الكيماوية والغاز. الرشاوى هي في صلب سياسة الدولة التركية التي اعطت المقاولين التسهيلات المالية والعقارية. الكثير من الأبنية بني على مواقع أنهار مائية سابقة. كان المقاولون يرمون تراب الحفريات في البحر وقد طمروا جزءاً من المياه وكسبوا جزءاً من أراضي البحر. ولهذا قال الناس بعد ابتلاع البحر لأراض من اليابسة "ان البحر يستعيد الأراضي التي اقتطعت منه"! اضافة لهذا لم يكن لدى الكثير من المقاولين الخبرة اللازمة واعتمدوا اساساً على رشوة المسؤولين المحليين، وان رفض أحدهم رفعوا الأمر الى المسؤولين في أنقرة الذين كانوا يقيلون "المستعصي على الرشوة". فالرشوة موجودة على كافة المستويات، والاسوأ ان دوائر الدولة تقوم برشوة بعضها البعض لتسير أمورها. واليوم يتصاعد الغضب الشعبي أمام تقاعس الدولة وتقصيرها في تلبية احتياجات متضرري الزلزال الأساسية. والدولة منزعجة من التطور السريع للمجتمع المدني نتيجة نشاط الجمعيات الاهلية بعد الزلزال، وهي تحاول لجمه ودعم الهلال الأحمر التركي من خلال حصر مهمة توزيع مواد الاغاثة به. والهلال جمعية متخلفة موصومة قيادتها بالاختلاس والفساد، والخيم التي وزعها على المنكوبين بلا أرضية وغير مقاومة للمطر وعمرها حوالى القرن ويعيش فيها حوالى عشرة أشخاص من دون حمامات أو كهرباء. ويشتكي الناس من قلة الأكل وسوئه ومن شحة ماء الشرب. وباستطاعة كل من يشاهد بعض محطات التلفزيون التركية ان يتابع تظاهرات الاحتجاج الجماهيرية بسبب الاهمال وقلة المساعدات. ففي 25 ايلول سبتمبر الماضي نقلت المحطة السابعة تظاهرة جماهيرية حاشدة توجهت بغضبها الى مقر الوالي لمنطقة ادبزارا الذي صرح بعدها بانفعال "انه أصعب يوم في حياتي منذ ان توليت منصبي". واكد المذيع أن التقصير واضح، فالمساعدات التي وصلت الى الدولة بعد الزلزال تقدر بأربعة بلايين دولار، ويبدو ان معظمها لا يجد طريقه لإغاثة المتضررين".