كأنها يتيمة السياسة الايطالية، تضرب خبط عشواء، من غير عميدها رئيس الوزراء السابق الذي شغل المنصب، سبع مرات، جوليو اندريوتي الذي أعفته المحاكم أخيراً من تهمتين بالتخطيط لاغتيال صحافي وبالتواطؤ مع المافيا، والذي يتأهب، وهو على عتبة التسعين، للعودة الى المعترك السياسي الايطالي الذي خيّمت فوقه ماكيافيلية هذا الرجل الضئيل والنحيل نيفاً وأربعين عاماً. لم تنقض ساعات على صدور قرار الإعفاء، لعدم وجود أدلة كافية، في آخر محاكمة لأندريوتي، حتى عاد النشاط يدّب في السياسة الايطالية التي بدت في الفترة الأخيرة وكأنها قد استقرت في جوٍ من الرتابة والملل، لم تعرفه في العقود الماضية. والنشاط في القاموس السياسي الايطالي رديف للمفاجآت وتقلب التحالفات، وتوالف الأضداد، ومسلسل دائم من الفضائح والمؤامرات والدسائس. القراءة الأولى لتبرئة آندريوتي قضائياً من التهم التي، بواسطته، كانت موجهة الى الطبقة والقوى السياسية التي حكمت ايطاليا في ظل الجمهورية الأولى، هي طي صفحة المرحلة التاريخية التي بدأها قضاة "الأيادي النظيفة" في 1992 لتطهير مؤسسات الدولة الايطالية من الفساد الذي غرقت فيه حتى رموشها. وعطل اجهزة القضاء والرقابة والمحاسبة فيها طوال السنوات الأربعين الماضية. أما القراءة الثانية، والأهم سياسياً، فهي الرياح الشديدة التي بدأت تعصف على حكومة وسط اليسار التي يقودها ماسيمو داليما، والتي تقوم على توازن دقيق وغالبية برلمانية ضعيفة تؤمنها لها أحزاب الوسط الصغيرة التي بدأت تتحرك على وقع الخطاب اللماح والمبطن الذي طالما اشتهر به اندريوتي، مبتعدة عن مركز الثقل اليساري ومهددة بإسقاط الحكومة. لكن القضاة الذين يتهمهم اندريوتي بتنفيذ أوامر من "جهات محرضة" لإبعاده عن السياسة، هم الذين حاصروا برلوسكوني وأوقفوا صعوده السريع، ودفعوا بالزعيم الاشتراكي ورئيس الوزراء السابق بتينو كراكسي الى المنفى. واللافت انه بعيد الإعلان عن تبرئة اندريوتي، أصدرت محكمة الاستئناف قراراً بإلغاء الاحكام والعقوبات التي كانت صدرت في حق برلوسكوني وكراكسي، لانقضاء الفترة القانونية عليها. كراكسي في طريقه الى العودة من منفاه في تونس، حيث تدهورت صحته في الأيام الأخيرة، بعدما أعلن رئيس الحكومة انه لا يمانع في اعادته للعلاج في ايطاليا. وبرلوسكوني يتحفز لاستعادة المجد الذي كاد ان ينهار تحت وطأة المحاكمات والملاحقات القانونية. واندريوتي عاد ليحرك خيوط لعبة سياسية هو سيد من فك رموزها وحلّ عقدها. خريف مضطرب تقبل عليه ايطاليا، وكأنها عاجزة عن وأد جمهورية الفساد، بعدما نعتها غير مرة.