كانت الانتخابات انتهت لتوّها في تونس عندما حصل ما استقطب انتباه التونسيين اكثر مما فعلت الحملة الانتخابية ويوم الاقتراع او السهرة الانتخابية التي اقترحها عليهم التلفزيون الرسمي. فمساء الثلثاء شدّهم الى بيوتهم باكراً برنامج في قناة "الجزيرة". كان التجول في تلك اللحظة، اقله في العاصمة تونس، ينبئ بأن حدثاً كبيراً خطف الناس من الشوارع، كما في أيام المونديال، أو كما في مناسبات كروية مجيدة كالتي شهدت أخيراً في القاهرة وبورسعيد انتصاراً مزدوجاً لناديين تونسيين ضد ناديين مصريين. لكن الحدث لم يكن رياضياً. كان سياسياً، بل سياسياً جداً، يتناقض كلياً مع كل ما اشتكى منه مرشحو احزاب المعارضة. فهؤلاء تباكوا كثيراً وأحبطوا اكثر، في الأيام الاخيرة، لأنهم عقدوا لقاءات انتخابية "جماهيرية" لم تحضرها جماهير وانما نفر قليل من الناس. وبعضهم استثارته ظاهرة العزوف عن السياسة هذه. الا ان تفاعل الناس مع "الاتجاه المعاكس" اثبت للجميع، حكماً ومعارضة، ان السياسة لم تمت في تونس، لكن التونسيين مجّوا "اللغة الخشبية" - كما يسمونها - التي باتت الطبقة السياسية تتكلمها ولا تجيد سواها. على مدى ساعتين فضائيتين استحضر ملف الصراع بين السلطة وحركة "النهضة" بمقدار كبير من السخونة، وجرى الكلام عارياً وصريحاً خائضاً في كل ما جعلته السلطة طوال السنوات الاخيرة ممنوعات ومحرمات تفرضها على الاعلام المحلي والخارجي، من دون ان تفلح دائماً في هذه المهمة. اذ ان الصراع لم يقتصر على "النهضة" الاسلامية، وشمل سائر احزاب المعارضة التي كرّست الانتخابات الاخيرة تدجينها، من دون ان يبدو ذلك مقنعاً للرأي العام التونسي. في أحد الباصات المتجولة بين أحياء تونس العاصمة كان الركاب يسائلون بعضهم بعضاً، صباح الأربعاء، هل شاهدت "الماتش" البارحة؟ وكان السؤال نوعاً من المشاركة الخجولة والسرية في الحدث، مثلما كان "الماتش" نفسه مسرحاً للاسقاطات على الداخل وللتعويضات عن نقاش غير مباح في المجتمع، يتساوى في ذلك ان يكون تقويم مضمون المواجهة المتلفزة سلبياً او ايجابياً. فالارتياح الذي اعقب "الماتش" يعزى خصوصاً الى انه اثبت ان عودة الحياة السياسية الى "المشهد" لا تزال ممكنة. اذ ان الاقبال على المشاهدة كان بدافع الحشرية اكثر مما كان بدافع التعاطف مع هذا الطرف أو ذاك. كان "الماتش" بين رئيس حركة "النهضة" راشد الغنوشي والاعلامي النهضوي سابقاً والموالي للسلطة حالياً الهاشمي الحامدي. وبالنسبة الى "الشيخ"، اي الغنوشي، كان هذا الظهور التلفزيوني الأول منذ زمن طويل، لذا دفع ثمنه بأن يشارك في مناظرة مع "الفتى" وفقاً لتوصيف التوانسة المنشق عنه، اي الحامدي، لكنه لم يوجه اليه الكلام طوال البرنامج ولا ردّ على اسئلته أو مآخذه، او على العرض الذي حمله اليه من الرئيس زين العابدين بن علي ل"العفو" عنه. ولذلك ارتأى كلٌ منهما ان يخاطب بن علي مباشرة، وعلى طريقته، فالشيخ يعرض افكاره وملف قضيته في طيات اجاباته عن الاسئلة، والفتى يعرض نسخة من القرآن الكريم تلقاها هدية من الرئيس التونسي مقطعاً كلامه ب"قال لي السيد الرئيس" و"قلت للسيد الرئيس"، مكرراً بين الحين والآخر التلويح بورقة "العفو" متحدياً الشيخ ان يقبلها ويعلن موافقته عليها لعل البرنامج التلفزيوني يصنع هذا الحدث. عدا هذين اللاعبين في الاستديو اللندني، كانت المداخلات الهاتفية، مرة تساند "الشيخ" ومرة تدعم "الفتى". ولم تخرج من تونس نفسها سوى مكالمتين هاتفيتين في اتجاه الحامدي، فيما اتجهت المكالمات الخارجية نحو الغنوشي. ويقول حزبيون تونسيون معارضون انهم بذلوا محاولات دؤوبة للاتصال والتدخل، وبالتالي لبث رأي ثالث في مسار النقاش، لكنهم لم يفلحوا. قناعتهم ان الخطوط مع لندن صودرت خلال هاتين الساعتين. وحتى الهواتف النقالة لم تنجح في اختراق الطوق. في النهاية لا شيء يتغير ببرنامج تلفزيوني، ولم يسمع التونسيون في تلك اللحظة السياسية المتفلتة من رقابة السلطة ما لا يعرفونه. ففي جلسة قهوة غداة "الماتش" تساءل سياسيون وصحافيون: هل هناك "عفو" حقاً؟ وأرفقوه بما يشبه الاجابة: لو كان هناك عرض جدي للعفو لكان من الافضل طرحه عبر "قناة" سياسية وقانونية... ويبقى ان واقع الحال يجعل التونسيين يلجأون الى اذاعات وتلفزيونات خارجية لسماع ما يخاطب عقولهم بشأن اوضاعهم المعقولة اقتصادياً وغير المعقولة سياسياً.