سلطت الأضواء مجدداً على ديون العالم الثالث المتفاقمة منذ ثلاثة عقود، بعد ان اصبحت روسيا تستأثر بحصة الأسد من القروض وبرامج المسامحة والاعفاء من الديون، لا بسبب مكانتها السياسية وترسانتها النووية وحسب، بل وبسبب المخاطر الاجتماعية التي صارت ظاهرة مشتركة في مختلف الدول العاجزة عن دفع فوائد القروض فضلاً عن تسديد الدين الاصلي. ونال هذا الجانب اهتماماً أكبر في حسابات الدول الكبرى خشية تفاقمها بشكل يقود الى تحولات سياسية مفاجئة. واستناداً الى ذلك بدا ان تسييس قمم ومؤتمرات الدول الصناعية السبع بلغ ذروة جديدة في قمة واشنطن الاخيرة. وربط محللون ومختصون بين ذلك وبين ظاهرة الفساد الحكومي في الدول النامية والهيمنة الغربية المؤثرة على برامج التنمية بشكل سلبي. وقاد هذا البعد الاجتماعي والسياسي الى التركيز على سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وكشف للمرة الأولى في قمة واشنطن سبب فشل خطط تخفيف ديون العالم الثالث والكوارث المرتبطة بها كالفاقة والأمية والضمانات الصحية. وأشير تحديداً الى الشروط التي يضعها صندوق النقد الدولي وأهمها تخفيض الانفاق العام وهو مطلب يتعارض مع مطالب البنك الدولي بالانفاق على التعليم الابتدائي والخدمات الصحية الأولية لتخفيف الفاقة وتحسين الاوضاع الاجتماعية. وعلى رغم وجود تفاؤل عام بانحسار الازمة الاقتصادية العالمية خلال السنتين الماضيتين، وآمال بامكان تنشيط خطط تخفيف ازمة ديون العالم الثالث التي اتسمت بالبطء خلال السنوات الخمس الماضية، ما تزال المعضلة في اوجها بسبب خلل خطط المؤسسات الدولية المعنية. فمع صعوبة المقارنة بين الازمة الاقتصادية العالمية في مطلع التسعينات والانفراج النسبي الحاصل بعد حرب الخليج، والأزمة الراهنة وذيولها في آسيا والبلقان، فان تفاؤل الدول الغنية السبع يبدو غير بعيد عن خطط اعادة اعمار دول البلقان المتضررة من العمليات العسكرية الى ترحيل اقتصادات الدول الآسيوية. طلب خبراء بحثوا خطط اعفاء ديون العالم الثالث دفع الاموال لمشاريع التنمية مباشرة بدلاً من ايداعها في المصارف او ذهابها الى جيوب تجار السلاح. ولكن ذلك يصدم ببنية الديموقراطيات الغربية ذات التاريخ الذي يمتد لعدة قرون في تعاملها مع هذه القضايا. فكثير من الفساد في الدول الافريقية وغيرها من دول العالم الثالث له طبيعة مختلفة كلياً. ففي حين كان موبوتو مثلاً يجمع ثروة شخصية تقدر بأربعة بلايين دولار، كانت زائير تعود الى الوراء. واستناداً الى رقم احصائي واحد، هناك 88 الف ميل من الطرق لا تستخدم انشئت تحت حكم بلجيكا في الستينات، في حين انشئ 12 الف ميل فقط بعد ربع قرن من الاستقلال. فالدول الفقيرة لا تملك الخطط لانشاء مشاريع للمدى الطويل. فاقتصادات بلدانهم ضعيفة وتعتمد على سلعة واحدة، وأسعار السلع تهبط باستمرار تبعاً لشركات التصنيع والخدمات، والمجاعات منتشرة خصوصاً في دول يشيع فيها المنطق الاستعماري القائم على اساس عرقي. هناك اجماع على ضرورة اعادة النظر بخطة تخفيف الديون وبحث عدم التوازن في التجارة الدولية، وزيادة العون، وإصلاح المؤسسات وإرساء سياسات تجارية اكثر عدلاً، ومعالجة الازمات المستفحلة مثل انتشار الايدز في دول جنوب الصحراء الافريقية، وهبوط مستوى المعيشة في روسيا وشرق أوروبا منذ سنة 1989. ومن أبرز ما اقر حديثاً تقديم قرض جديد من صندوق النقد الدولي لروسيا، ومساعدات للدول التي تقع على الخط الأول في البلقان المتأثرة بالأزمة. وظهر للمرة الأولى خلال سنتين ان الوضع الاقتصادي العالمي بدأ يتحسن. وهناك خلاف بين ما اذا كان على صندوق النقد الدولي وضع اسس جديدة يجب مراعاتها من الجميع ام معالجة كل حالة بمفردها، وفق ما تفضله اميركا. خطط التنمية أنذر رئيس البنك جيمس ولفنغسون بأن تمويل برنامج الاغاثة من الديون قد يجبر على الاقتطاع من برامج التنمية الاخرى. وتطلب بريطانيا التركيز على برامج للمدى الطويل، ويتطلع الخبراء الى خطط لا تقيد الدول الفقيرة وتعيدها الى الوراء في برامج التنمية. وأكدت مؤسسة "اوكس فام" الخيرية الدولية بأن خطط صندوق النقد الدولي جعلت الفاقة أسوأ في الدول النامية. يرى وزير الخزانة البريطاني غوردن براون ان تكون المعايير الاجتماعية ذات اولوية في برامج صندوق النقد، وطلب منه ان يعترف بفشله في محاولته للتوافق مع خطط البنك الدولي، وعليه ان يرفع يديه عن خطط التنمية. ومن جهته تبنى البنك الدولي فكرة اعفاء الديون عن طريق تخفيض الفاقة، وهو ما يزال مغرماً بسياسة متجمدة تعتمد مؤشرات مالية للمدى القصير. وكانت المجادلات لمدة طويلة تتركز على ما يقبله الغرب وليس ما تحتاجه الدول الفقيرة او ما تستطيع دفعه. هناك ثلاث دول فقط تنطبق عليها شروط تخفيف الديون، واعترف البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في الكواليس بأنه في الدول القليلة الحائزة على الشروط لم تنل سوى فوائد ومعونات قليلة. وهناك مطالب بألا تقترن خطط مسامحة الديون بشروط، وان تترك الدول الفقيرة تختار طريقة انفاق المال الناجم عن الاعفاء من دون تدخل الحكومات الغربية والمؤسسات المتعددة الاطراف. ويرى ديفيد غولدنغ المتحدث باسم "غوبلييه 2000" في جامعة نيوكاسل تجميد الديون وليس شطبها مباشرة، وجعل المبالغ المخصصة لتخفيف الديون جاهزة منذ البداية لمدة سنة. ووفقاً لأساليب ونجاعة معالجة الأوضاع الاقتصادية يتقرر الغاءها بعد عشر سنوات. وقدمت في الوقت ذاته مطالب الى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لتخفيض مدة الاعفاء من الديون من 6 سنوات الى 3 سنوات، وتسريع خطوات تطوير برامج الاعفاء التي اعدت في قمة برمنغهام، بعد ان تم الاعتراف بأن الخطوات السابقة لم تكن كافية؟ وبريطانيا من الدول التي تفضل تخفيض 50 في المئة من الزمن الذي يجب الاتفاق عليه في مشروع صندوق النقد الدولي. ويتذمر اصحاب الاعتمادات الغربيون لأن الدول السبع تقدم خططا اكثر مما تقدم مالاً. وهم سيقدمون النصف، وسيدفع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي حوالى نصف الأموال اللازمة للبرنامج. بقي عدم المساواة في الدخل الفردي في عدة دول نامية وحديثة النمو كالبرازيل اذ يحصل 10 في المئة من اعلى المداخيل الفردية على قرابة نصف مجموع الدخل مقارنة مع ربع ال10 في المئة من اعلى المداخيل في بريطانيا. ولايجاد بريق امل، ذكر بعض تقارير المؤسسات الدولية جوانب مشجعة، فقد نجت الهند والصين من الازمة الاقتصادية المالية، وشهدت دول فقيرة مثل بوتسوانا معدلات نمو متزايدة في الدخل العام ومداخيل الأفراد. وارتفعت مستويات المعيشة في العالم عموماً في الربع الأخير من القرن. وتأتي مشاكل التعليم والأمية في مقدمة ازمات العالم الثالث، وهناك اجماع على الحاجة لبناء قاعدة قوية لتلافي سوء التخطيط الذي بموجبه كانت موازنات التعليم المفترض انفاقها على المدارس الابتدائية صرفت على الجامعات. وأنفقت موازنات الصحة على مستشفيات تعليمية، وهذا جيد للنخبة وليس للفقراء، وكارثة لبنية التنمية والمؤسسات المدنية التي يمكن ان تدعم الديموقراطية. وما لم تكن هناك صلة وثيقة مع برامج اعفاء الديون، فان عملية الاصلاح ستتأخر او تلغى. ويجري التشديد على ان تخطط الدول النامية لانشاء مدارس ابتدائية وتحقيق عناية صحية اساسية والتعهد بالالتزام بذلك. ويرى الخبراء ان المسألة ليست مجرد ترشيد الانفاق، ولكن ضبط الرقابة ايضاً والتعلم من افضل التجارب. ومن القضايا المهمة التي يجري التركيز عليها كثيراً الشروط الاجتماعية في الدول الفقيرة، لذلك يُطلب ان يغير البنك الدولي اساليبه، فليس عملياً ان يشترط الانفاق على التعليم العالي والرعاية الصحية المتطورة من جانب، في حين يطلب صندوق النقد الدولي تخفيض الانفاق العام كجزء من تطوير البنية التحتية في الجانب الآخر. ويرى كولن ليسي في كلية التعليم في جامعة سسكس ان المسألة ليست مجرد زيادة الانفاق، بل هي ايضاً القيام بعملية تقييم صحيحة ومراقبة التعليم والاستقاء من افضل التجارب العملية والتركيز على الشروط الاجتماعية. وأكد في تقرير له: "توقعنا بثقة منذ سنة تحقيق اهداف التنمية العالمية وتقليص الفاقة الى النصف، وتخفيض معدلات وفيات الاطفال الى الثلث وجعل دخول المدارس الابتدائية متاحاً لجميع الاطفال، ولكن هذه الاهداف لم تتحقق". تزداد المؤشرات الاقتصادية المرتبطة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الاحصاءات الدولية كامتلاك الكومبيوتر الشخصي والهاتف النقال والاشتراك في الانترنت، وقد حفل تقرير صندوق النقد الدولي والتقارير الاخرى بمقارنات بالغة الدلالة على رغم بقاء توفر التعليم الابتدائي لكل الاطفال والخدمات الصحية الأولية معايير اساسية لتحديد الهوة بين الدول. وهي كانت استجابة لضغوط فرنسا واليابان وكندا لمساعدة العالم الثالث في قمة ليون الصناعية في حزيران يونيو 1996. وتأثرت خطط تخفيض الفاقة والمجاعات بالأزمة الاقتصادية العالمية خلال السنتين الماضيتين وفقاً لتقرير البنك الدولي الذي نشر في 26 نيسان ابريل الماضي، وعلى رغم وجود اتجاهات مشجعة فان الفجوة تتسع بين الدول الغنية والفقيرة. ومن مؤشرات ذلك شبكة الانترنت التي يشترك فيها عدد قليل من الدول النامية. وهذا يعني اكثر من مجرد ازمة مالية، "انها ازمة مؤسسات لا تستطيع الحفاظ على متابعة النمو الاقتصادي العالمي" وفق قول رئيس البنك الدولي الذي انذر بأنه ستزداد صعوبة تحقيق المجتمع الدولي لأهدافه في عملية تقليص الفاقة ومعدل وفيات الاطفال وزيادة المدارس الابتدائية في العالم. وكشف تقرير البنك الدولي مؤشرات اخرى الى عدم المساواة مثل فرص حيازة التكنولوجيا الحديثة كتكنولوجيا الكومبيوتر والاتصالات التي تسمح من حيث المبدأ للدول الافقر بالقفز فوق التكنولوجيا القديمة التي ما تزال منتشرة في الدول الصناعية. فمثلاً هناك في الفيليبين وسيريلانكا معدلات اعلى للهواتف النقالة مما هو في دولة اوروبية مثل بلجيكاوفرنسا، وذلك استناداً الى المساحات الأرضية. وهناك دول في جنوب الصحراء الافريقية مثل بوتسوانا وجيبوتي وغانا تملك حالياً شبكات هاتفية ديجيتل، ومع ذلك ما يزال استخدام الهاتف النقال بمعدل واحد في الألف من السكان مقارنة ب189 في الدول الغنية، وهناك 6 خطوط هاتف سلكي للألف في الدول الفقيرة مقارنة مع 506 للألف في الدول الغنية. وهناك تشابه في الحصول على كومبيوتر شخصي والاشتراك في الانترنت، اذ يحصل اثنان فقط في الألف في الدول الفقيرة على كومبيوتر شخصي، في حين يحصل واحد من كل اربعة عليه في الدول الغنية، وأقل من واحد في العشرة آلاف يشترك في الانترنت مقارنة مع 375 في العشرة آلاف في الدول ذات الدخل المرتفع. وهناك استثناءات مثل كوبا التي تعادل نسبتها فرنسا والبرتغال وفنزويلا وجنوب افريقيا في استخدام الانترنت. وتعد دول اميركا اللاتينية الاكثر في الحصول على كومبيوتر من بين الدول الماضية في النمو، وتأتي بعد وسط وشرق أوروبا في الاشتراك في الانترنت. هناك فشل لم يخفه احد يتعلق بسبل جذب القطاع الخاص للاسهام مع صندوق النقد الدولي في خطط تخفيف الفاقة في العالم، فقد فشل قادة الدول السبع في الاتفاق على كيفية جذب القطاع الخاص الى المشاركة في خطط الانقاذ المالية الدولية في المستقبل. ويمكن القول عموماً ان الآراء الجديدة المطروحة حديثاً استطاعت تغيير شروط المناظرة الدولية حول ديون العالم الثالث وسبل التصحيح الضروري لتلافي المخاطر الاجتماعية والسياسية لمعضلة ديون العالم الثالث. * كاتب وصحافي سوري مقيم في بريطانيا