الكتاب: حياة وحشية الكاتب: ريتشارد فورد المترجم: كامل يوسف حسين الناشر: دار الآداب، بيروت لعل أكثر ما يلفت الانتباه في رواية "حياة وحشية" هو انتماؤها الى ما يسمى "الواقعية القذرة" هذه المدرسة التي تطل علينا للمرة الأولى عبر هذه الرواية، لذا فإن المرء يجد نفسه متحفزاً لقراءة أدب جديد حقاً، أدب محجوب، مغيّب، يُلقى بعيداً في الظل حتى لا يصل الى يد القارئ. وليست مصادفة هذه، يقول المترجم: "إن اطلالة كتّاب هذا التيار على الساحة الأدبية العالمية تم أساساً من خلال دور النشر البريطانية ومن خلال عدد من مخرجي السينما الأميركية يشكلون الاستثناء، لا القاعدة، ربما لأن هناك من يحرص في الدوائر الرسمية على أن تبقى أميركا الحقيقية هذه، أميركا التي تعيش بلا حلم، ولو حتى في صورة كابوس، لأنها تفتقر الى أبسط مقومات الحلم الإنساني، وراء ستار المجهول بعيداً عن العيون الفضولية". نحن إذاً أمام أدب مطرود مُطارد ومدرسة متمردة جديدة ظهرت للمرة الأولى في 1983، ولم تصل الينا إلا بعد اثني عشر عاماً، وكان يمكن أن يتأخر وصولها الى أربعين عاماً كما حدث ويحدث مع كثير من المدارس النقدية، لولا جرأة الدار وجرأة المترجم. وقبل الدخول الى عالم الرواية وتفصيلاته نحاول استعراض المقدمة التي صدّر بها المترجم الرواية. يقول: "هذا الاصطلاح، الذي لا يتردد بعضهم في أن يجعله مرادفاً، أو حتى بديلاً لاصطلاح الواقعية الجديدة، صاغه بيل بوفورد رئيس تحرير مجلة "غرانتا" البريطانية المعنية بالأدب الحديث، ولم يتردد في جعل الاصطلاح عنواناً للعدد الثامن من المجلة الصادر في 1983 ثم عاد فخصص العدد التاسع عشر من المجلة للمزيد من الكتابات المنتمية الى التيار نفسه، في 1986 تحت العنوان العام "مزيد من القذارة". ولكن ما الذي يعنيه اصطلاح الواقعية القذرة. يقول المترجم: "ليست لنا، وإنما هي لبيل بوفورد نفسه، الذي يبادر في افتتاحية العدد الثامن من "غرانتا" الى الرد على هذا السؤال بشكل مباشر بقوله: انها واقعية قذرة غريبة تدور حول جانب البطن من الحياة المعاصرة، ولكنها واقعية شديدة الأسلبة والتخصيص ومغذاة بإصرار بالغ بمفارقة موجعة ومراوغة في بعض الأحيان، بحيث تجعل الروايات الواقعية الأكثر تقليدية، وقد كتبها كتّاب مثل ابدايك وستايرون، تبدو بالمقارنة معها أعمالاً زخرفية، بل وباروكية". ويعلق المترجم على ذلك فيقول: "عندما يصوغ بوفورد الاصطلاح فإنه يصوغه بروح الأديب فيجعله مرادفاً لكتابة جديدة "تدور حول جانب البطن" بمعنى انه التيار الأدبي الذي يتصدى للحياة الانسانية في تعاملها مع الاحتياجات الإنسانية، ويعبر عن هذا التصدي بأسلوب جديد يختلف تمام الاختلاف عن التراث الكتابي والمعطى الروائي الواقعي الذي لم يبعد به العهد تماماً". وفي مقاطع أخرى من المقدمة نجد توضيحات أكثر للمصطلح "فهي، قص شديد التجرّد في الأسلوب الى حد ان الأمر يقتضي وقتاً لكي يدرك المرء كيف أن ثقافة بكاملها ووضعاً أخلاقياً بأسره يتم تمثيلهما تماماً حتى من خلال أشد الصور اقتضاباً وخفة" و"ان هؤلاء المؤلفين هم، من منظور محدد، شباب الستينات وقد نضجوا، جيل يشكك الآن، بعد أن نشأ على الماريوانا والمخدرات البيضاء ومسيرات الاحتجاج... انها ليست قصص الاحتجاج ولكنها قصص مُناسَبَة الاحتجاج". "والواقعية القذرة تنطلق لتحكي عن أناس عاديين، في ضواحي تمتد بلا انتهاء، وبلا روح، وبلا مشروع، وبلا غد، وبلا طموح، وبلا أمل في التغيير". وأعترف هنا أن كل تلك الصفات تفتح في خيال القارىء نافذة مشرعة على مدى بلا حدود غير معروف، بل أن القارىء فور سماعه الإصطلاح يشكل صورة له، أكثر مما قدمته "حياة وحشية"!. تدور أحداث الرواية - وهي قليلة - حول أربع شخصيات، أسرة مكونة من أب وأم وابن، وصديق الأم. وتتناول حياة الأسرة القلقة أمام مشكلة طرد الأب من عمله كمدرب غولف، وقراره الذهاب الى الجبال للمساهمة في اطفاء حريق مشتعل في الغابات، حيث يمضي هناك ثلاثة أيام، هي الزمن الفعلي للرواية، وخلال هذه الأيام تقوم علاقة بين الأم ورجل أعمال في الخامسة والخمسين من عمره، يتاح للإبن أن يعرف بكل تفاصيلها، وعند عودة الأب تقرر الأم الرحيل، وفي تلك الليلة يذهب الأب والابن الى أحد المطاعم، فيتحدث الابن للأب بعد مراوغة طويلة وتردد بما يعرفه، وهكذا يذهب الى بيت صديق الأم ومعه ابنه - الذي يبقى في السيارة - ويحاول احراق منزله، الا ان ذلك لا ينجح، فتصل عربات المطافىء، ويقف الأب وصديق الأم وجهاً لوجه، حيث يتنازل الأخير عن حقه ويطلق سراح الأب فوراً. "ربما شعرت زوجتك بالقلق عليك، يا رجل، إمض بابنك الى الدار، حيث ينبغي أن يكون" لكن الأم تترك المنزل الى مدينة أو مدن بعيدة، وتواصل ارسال الرسائل الى ابنها، الى ان تعود ثانية "حينما أطل الربيع، عادت أمي من حيث كانت، وفي غضون بعض الوقت وجدت هي وأبي سبيلاً لتسوية الخلافات التي كانت قائمة بينهما، وعلى الرغم من أنهما ربما شعرا معاً بأن شيئاً قد مات بينهما"، نستطيع ان نقول ان هذا هو التلخيص الظالم للرواية، لأن اي تلخيص هو ظالم في حقيقة الأمر. على المستوى العام، لا نستطيع ان نقول ان هذه الحبكة - وليس فيها كثير من التجاوزات الصادمة سوى معرفة الإبن ورؤيته لأمه وصمته عن العلاقة - هذه الحبكة تبدو في طياتها أنها لا تحمل رواية تنتمي الى هذه المدرسة، خصوصاً من دون الانقاص من قدر الرواية كرواية عادية جميلة تنتمي أيضاً الى عشرات الروايات التي نطالعها عربياً وعالمياً. وتبدو الرواية أيضاً خارجة عن اطار التعريف الذي حددت به هذه المدرسة "أسلوب جديد يختلف تمام الاختلاف عن التراث الكتابي" و"قص شديد التجرد" خصوصاً إذا نظرنا الى عدد أحداثها الذي لا يرفع رواية في العادة، هذا العدد القليل، الممتد على مدى 225 صفحة. فمشهد العشاء في بيت صديق الأم يأتي في خمسين صفحة تقريباً، كما أن التركيز على التفاصيل كما جاء على لسان الراوي وهو الابن، يحمل فائضاً كبيراً، لا في ضوء الكتابة الروائية، بل في ضوء تعريف "الواقعية القذرة" على رغم أن الوصف جميل، ومشهد العشاء غني. وإذا وصلنا الى نهاية الرواية حيث التسامح من صديق الأم أمام حرق الأب منزله، وعودة الأم "حينما أطل الربيع" فإننا أمام حياة عادية في حقيقة الأمر، ورواية أكاد أقول تقليدية، فالبناء الغني تقليدي لا يضيف الكثير الى بناء الرواية، بناء أفقي، تتحرك فيه الأحداث بتتابع، ولكنه البناء التقليدي الجميل والغني أيضاً، سواء كان ذلك متمثلاً في السرد الروائي الوصفي المعني بالتفاصيل الدقيقة والاحساس بها انطلاقاً من احساس الشخصية بذاتها في تلك اللحظة، أو في الحوار، وهو هنا حوار أخاذ يميل الى الاقتصاد فعلاً، والى الحكمة في بعض الحالات، خصوصاً ما أتى منه على لسان الأم. ان صفة "الوحشية" العائدة الى الحياة في عنوان الرواية، و"القذرة" العائدة الى المدرسة التي تنتمي اليها الرواية غير متحققتين فعلاً في هذا العمل، الذي نعود لنؤكد جماليته، ولكننا لا نملك إلا أن نتساءل، هل كان هذا العمل هو القابل للانتشار عربياً من دون عوائق، ولا نملك إلا أن نسأل كيف يمكن أن يحاصر في أميركا وأن يجد تربة وجواً للانتشار في عالم عربي؟ ربحنا في مقدمة جميلة حقاً حول الواقعية القذرة، وربحنا رواية جميلة أيضاً تلت المقدمة، لكنها رواية كما سبق أن قلنا، بعيدة عن هذه الواقعية، بل وتبدو خجولة الى حد بعيد جداً وأقل "وحشية" الى درجة بالغة إذا ما قورنت بروايات عربية مثل "الخبز الحافي" لمحمد شكري التي كتبها عام 1972 أي قبل أحد عشر عاماً من بروز مصطلح "الواقعية القذرة"، ورواية "عرس بغل" للطاهر وطار وبعض روايات حنا مينه وغالب هلسا والطاهر بن جلون وكاتب ياسين ونجيب محفوظ أيضاً. وإذا أخذنا في الاعتبار ما تلاقيه بعض الروايات العربية من حصار، وما تتضمنه من جرأة، فإن رواية محمد شكري رائدة لهذا المصطلح بامتياز، رواية احتجاج وحشية حقاً. ولكننا نبقى في انتظار أعمال أخرى تنتمي الى هذه المدرسة، فنحن على يقين أن شمعة واحدة غير قادرة على إضاءة مدينة كاملة مهما بلغت قوتها، لكننا في الوقت نفسه لا نستطيع أن نقصي عن أذهاننا روايات هنري ميلر وبعض أعمال البرتو مورافيا عالمياً، على رغم أنها لا تنتمي الى أعمال كتاب هذه المدرسة.