الكتاب: رماد القمر الكاتب: برهان شاوي الناشر: وزارة الإعلام والثقافة، أبو ظبي - 1999 ليست المرة الأولى التي ينحو فيها الشاعر العراقي برهان شاوي الى كتابة قصيدة طويلة، يستلهم عبرها الأساطير القديمة في سومر للاستفادة من بناها الأسلوبية والجمالية والتعبيرية، فضلاً عن التناص مع فضاءاتها ومناخاتها الإنسانية العامة. فقد عمد الى هذا التوجه الشعري في مجموعتيه الشعريتين السابقتين: ضوء أسود، تراب الشمس. ذهاب الشاعر الى هذه المنطقة التعبيرية والأسلوبية يجعله يرتد عكسياً مع شعراء قلائل ما زالوا يدخلون الأسطوري في أساس شعرية قصيدتهم في حين أن الشعر العربي الجديد يتجه الى اليومي والتفصيلي والجزئي لأسطرته وإعلائه الى المستوى الكلي. فإذا كان شعر الستينات قد تشرب في غالبيته بالتاريخي والأسطوري فإن الشاعر برهان شاوي لا يفعل ما فعله الشعراء الرواد ولا يمشي في أراضٍ محروثة سابقاً بل يحاول أن يفتح طريقاً أسلوبياً وجمالياً خاصاً به فهو لا يذهب الى الأسطوري ليسقطه على الواقع العام أو الشخصي فحسب بل يعمل على زحزحة الركائز والبنى والترميزات التي من الممكن أن ينفتح عليها النص الأسطوري عبر نقله من موقعه الأسطوري الى موقع شعري يجعله يوسع سماواته وبناه التعبيرية في حد ذاتها. في عملية تماه مطلق معه. يستحضر الشاعر في سبيل صوغ مناخ أسطوري عدداً كبيراً من المرموزات الأسطورية والتاريخية السومرية متخذاً من شخصية المنشد الجوال قناعاً يعبر من خلاله عن عذاباته وآلامه في المنفى، وحنينه الى المكان الأول في الأسطورة. يتحدد الزمن الأسطوري في القصيدة في جملة من الأسماء هي "سيبار، لوجال زاكيزي" الملك السومري الذي غزا لجش وأطاح بأور ونهب المدن، وهي في أوج عزها وهدم معابدها وذبح أهلها، سرجون الأكادي، أوروك، جوديا الملك المستبد والفيلسوف، الأنوناكي". فضلاً عن أسماء الأمكنة والملوك يبث الشاعر في فضاء القصيدة عدداً كبيراً من العناصر والتسميات الأسطورية فاتحاً بذلك زمناً أسطورياً يتجاور ويتوازى مع الإيحاءات والإشارات التي تحيل على الزمن الشخصي فهو يستل ألفاظاً من الأسطوري مثل: "الغزالة السماوية، الثيران المجنحة، الديناصور، حجر سماوي، الرجل العقرب، الأختام الطينية، الرقم، الكلب ذي الرؤوس الثلاثة... إلخ. وتساهم جميعها في تشكيل المناخ الأسطوري الذي يتعمق من خلال طبيعة النسيج، أو الحياكة اللغوية، التي يتأسس عليها القول الشعري إذ يستخدم الشاعر التقنيات الداخلية الخاصة بالنص الأسطوري كالتكرارات والنداءات والإيقاعات الأقرب الى الضراعة والابتهال والتي تنعقد على روائح وأصوات تجعل القول الشعري وكأنه يود أن يرتفع ويطير، وهذا ما لا نجده سوى في النصوص الأسطورية والدينية فقط. "الغزالة السماوية تتوجس جريمة / خلف الأكمة / والأفعى / تفتح شدقيها / منتظرة غفلة الطريدة! / بينما الكلب الأبلق..، / ينبح في البراري على القمر ...! / وأنا المنشد الجوال / القادم من سيبار / أطفر على الجبال / ترافقني الرياح السبع / على القمة" ص 8 - 9. تبدأ القصيدة بتقديس المنشد الجوال قناع الشاعر لبلاد سومر والماجان التي تتحدد جغرافياً بالمنطقة الممتدة جنوبالبحرين حتى مدخل الخليج العربي كأنما يرغب الشاعر بالإشارة الى دولة الإمارات حيث يعيش ويعمل، بعدها يكشف القناع عن مسقط رأسه سيبار السومرية، وهنا يسبغ الشاعر صفات كونية على قناعة، ثم يجعله يبتهل الى الفضيلة الفائقة الحكمة... ولكي يصل اليها لا بدّ من مكابدته للآلام والعذاب شأنه شأن أبطال الأساطير، حيث يعبر نهر النحيب المقدس ويلقي بالخبز لكلب الجحيم الأسود ذي الرؤوس الثلاثة ويسكت عن أسئلة الرجل العقرب، حتى يصل الى البوابة التي تبدأ بالصرير، ويتحطم القفل والمزلاج، لكنه لحظة يمدّ يده الى الفائقة الحكمة تحجبها أدغال الحجارة والاسمنت. كما نرى فإن زمن السقوط والانكسار، وخراب العمر، تحت مرأى الناظرين يغلف القصيدة، ويجعلها الوجه الآخر للمصير التراجيدي والمأسوي الشخصي. لا تتحدد الفائقة الحكمة بالفضيلة فحسب بل تنفتح على البلاد والمرأة وكل ما من شأنه الإحالة على الحياة والجمال والخير كأنما ليست سوى المعادل الرمزي للشاعر ذاته. هذا ما يظهر من خلال العملية الشعرية التي يتوسل الشاعر من خلالها محو الحدود الفاصلة بين الأنا والآخر، الذات والموضوع. بحيث يتحول القناع المنشد الجوال الى رمز كلي بواسطة المتواليات النحوية والإيحاءات والإشارات والظلال. يقسم الشاعر القصيدة الى مقاطع سبعة تبعاً للحركة الداخلية للقول الشعري. تتحول هذه المقاطع السبعة الى مرايا متقابلة، تعكس صور الداخل المتعددة وبرغم انكسار الصوت الداخلي. إلا أن الشاعر حرّر القول الشعري من الندب والبكاء والرثاء وهذا ما رسخ الشعري أولاً وأخيراً أمر آخر هو مركزية الحسي داخل القول الشعري. فالجهاز التصويري بنبني على المادي وطرفا الصورة دائماً ماديان إذ يشبه الشاعر المجرد بالحسي، والحسي بالحسي، محافظاً على رشاقة القول وحركته الغنائية الجارحة المغلفة بالشجن، والتي تتشرب من القيم الشفوية. ولعل عفوية التعبير لم تجعل القصيدة تسقط في البديهي والعاري، على رغم انكتابها ضد التجريد والعقلنة. فسطح القول الشعري الواضح والشفاف، البسيط والمشرق، يتضمن بنية عميقة من حيث قوة المعنى والإحالات الأنطولوجية. فهو يترسخ عميقاً، عبر مستوياته الدلالية والصوتية واللغوية، متشحاً بأبعاد رؤيوية، يظل التعبير حافزه ومنشئه، حتى في الأماكن التي تم فيها صوغ المعنى وحياكته بطريقة ملتبسة، تجعل القارىء يكابد قليلاً للدخول الى فضاءاته. والتعبيرية تظهر من خلال العنوان الفرعي نفسه، فمنذ البداية يحدد للقارىء دفة حركة قراءته، ويوضح له الطريق الذي سيسلكه، فضلاً عن تقنيات الأسطورة التعبيرية بحد ذاتها. إن الشفافية والفطرية التي تتسم بهما القصيدة لم تعدما كثافتها، بل عملتا على تعميقها لدرجة بدا فيها القول الشعري وكأنه يعتد ببساطته. هنا، لا يعود للبلاغة أو لعلم المعاني أو البيان دور مركزي، حتى وإن استعمل المشاعر استعارات غير ذهنية تظل خارجة عن نطاق التعقيد ولا تغادر الشفافية التي تكنز اللغة مثل "مصير أزرق، دماء الصبر الزرقاء، كلمات حمراء، كارثة زرقاء، إلخ. فالخطاب الشعري هو خطاب النهايات حيث تقترن الحكاية بالبوح بالصور العارضة الخارقة ذات الصبغة الميثولوجية. "أنا كاتب هذه الأشعار / القادم من سيبار / حاولت أن أهزم الظلام بشمعة / لكنك / أطفأت شمعتي / ومثل صياد عجوز / يقتفي أثر مملكة الغزلان / تتبعت أثرك في الصحاري والجبال / النسور مزقت حاستي / والأفاعي / لدغتني في قدمي مرات" ص 42. بالإضافة الى كتابة الشعر فان للشاعر نشاطاً ثقافياً في أجناس إبداعية وفنية عدة، فقد ترجم الى العربية مختارات شعرية عن الروسية والألمانية لماندلشتام، برودوسكي، أنا أخماتوفا، فيسوتسكي، روزا أوسلندر والأسماء الثلاثة الأخيرة لم تطبع مختاراتها وهي معدة للنشر، فضلاً عن ترجمته كتباً مسرحية وسينمائية مثل تمارين لياقة الممثل جسدياً، حوارات سينمائية لأكيراكوروساوا واخراجه لبعض المسرحيات له ولراسين وبريخت أثناء تواجده في المانيا بالإضافة الى اخراجه عدداً من الأفلام الروائية القصيرة.