قلما يمرّ زائر او وفد على جامعة بتسبرغ الاميركية إلا ويتضمن جدول برنامجه موعداً لزيارة الغرفة السورية - اللبنانية التي تعتبر جواز سفر يفتح للطلاب والمهتمين بأمور التاريخ والفن آفاق المعرفة والثقافة، وتعرّف الباحثين والاساتذة على تاريخ وحضارة عظيمين كان لهما اكبر الأثر في الفكر البشري. تشكل الغرفة السورية - اللبنانية احدى اهم غرف كاتدرائية التعليم في جامعة بتسبرغ والبالغ عددها 24 غرفة وتنتمي الى حضارات شتى. وتستعمل الجامعة، صاحبة اعلى مبنى تعليمي في العالم، هذه الغرف كوسائل ايضاح وتعريف بهوية كل بلد فنياً وتاريخياً، وكذلك للتغلب على الرتابة والجمود في اساليب التعليم، وكأجنحة عرض للوفود والزائرين من شتى انحاء بلدان العالم. يعود تاريخ الغرفة الى سنة 1882 عندما كانت عبارة عن مكتبة في بيت دمشقي عريق، ونُقلت مجزّأة بعناية فائقة عبر جبال لبنان العالية الى مرفأ بيروت، لتبحر عبر المحيط الاطلسي وتستقر بها الحال في مدينة نيويورك حيث كانت محط الانظار منذ ان عرضت في صالة كائنة في الشارع السابع والخمسين. ولاحقاً استقطبت اهتمام اساتذة التاريخ والفن بشكل عام، وباحثي جامعة بتسبرغ بشكل خاص. وفي 6 آذار مارس 1938، نشرت مجلة "نيويورك تايمز" مقالاً بقلم WALTER R. STORY حول اهمية هذه الغرفة فزادها ذلك اهتماماً ودراسة. اهتمام الجاليتين السورية واللبنانية لم يكن اقل، واصبح التنافس على اولوية امتلاك هذه القطعة الفنية الرائعة محصوراً بين هذه الجالية من جهة وبين جامعة بتسبرغ من جهة اخرى. الا ان الامر في النهاية حُسم لمصلحة العلم والبشرية. فقد قررت الجاليتان شراء هذه الغرفة واهداءها الى جامعة بتسبرغ شريطة ان تحمل اسم الجاليتين، وان يحافظ عليها فنياً وتاريخياً وتستخدم كرمز من رموز الفكر والمعرفة. وعلى إثر ذلك، واكراماً لهذا الحدث التاريخي، تم توحيد النوادي السورية واللبنانية لتحمل اسم البلدين. صُنعت جدران الغرفة السورية - اللبنانية من خشب الزيزفون الطبيعي، وجُمّلت بعد ذلك بدهان تلك الجدران بطريقة Gesso. وهي تقنية زخرفية تعود الى طراز العمارة البيزنطية: عبارة من مزج جبس بالغراء، ثم دهن المادة الرغوية الناتجة على سطح خشبي، مخلّفة بعد جفافها سطحاً ابيض ناعماً تمكن معالجته بسهولة بأي نوع من انواع الدهان، او التقنيات الفنية الاخرى. الا ان الوانها المتدرجة من الاخضر الزيتوني الحالم والاحمر الداكن، الى الاحمر الوردي والبرتقالي، عكست الطراز الشرقي بتألق وجمال. اما خلفية التصاميم فهي من البرونز او الذهب. واحياناً نجد الشكل المزهّر المنقوش على الزجاج والذي كان يماثل نظيره المصنّع في مدينة البندقية الايطالية. وللجدار المقابل للمدخل اهمية خاصة اذ يوجد المحراب، الذي طُليت قنطراته بالذهب، والقنديل الزجاجي الاخضر المتدلي من مركز السقف، وهو مملوء بالماء والزيت ليستمر لهبه الخافت ليلاً ونهاراً بعدما أُشعل للمرة الاولى في مراسم الاهداء والتكرم عند افتتاح هذه الغرفة. التصميمات الهندسية في الغرفة منقوشة ومزخرفة بأشكال مزهّرة، في محاكاة للعمل الزخرفي المعروف بالحفر والتنزيل. وتوجد خزانتان على جانبي المحراب، تتدرج الوانهما بشكل مغاير للون الخلفية، وتأخذ شكل ورنيش منقوش ومتعرّج من ذهب باهت، يعطي حرية في التعبير على خلفية سوداء او زرقاء. على الجدران الجانبية زخرفة خشبية صُمّمت خصيصاً لتبرز فنياً التراجع المدروس في جدار الغرفة بغية وضع مجموعة مهمة من الكتب. ومن الممكن زيادة شدة الاضاءة غير المباشرة في هذا الجدار المتراجع عند الضرورة من اجل دعم الاضاءة الخافتة. وصُنعت خزانة العرض من النحاس الاصفر من الخارج والسيراميك الملوّن من الداخل. وتمت عملية طلاء الخزانة بطريقة خاصة تدعىLozenge Rococo وهي اسلوب مفرط في الزخرفة والتزيين لأشكال معينة، راج في النصف الاول من القرن الثامن عشر. وهو يظهر بشكل مغاير للخلفية البرونزية مع النسق العربي في الزخرفة المعروف باسم أرابيسك. ويتمازج البرونز ورقائق الذهب المستعملة بطريقة oGess مع استقطاب الضوء الناجم من استعمال طريقة أرابيسك، فتبدو ابواب خزانة الكتب الكبيرة متألقة بسحر واشراق كبيرين. يحتوي السقف على تصميمات تحاكي السجاد المصنوع يدوياً، فنجد شكلاً سداسياً يغور في مستطيل من سبعة اقدام مربّعة، ويحوي على جوانبه اشكالاً مربّعة. وتتدلى من مركزه السلال حاملة القنديل. وهو وعاء نحاسي سداسي الشكل يسقط الضوء الصادر عبر زجاجه الاخضر، المؤلف من حلي مدلاة مثل قطعة مجوهرات، على صينية القهوة النحاسية الموضوعة على قاعدة خشبية في وسط الغرفة، وهي جاهزة دوماً مع فناجين القهوة للترحيب بالضيوف. ويعبّر تصميم باب الدخول والنافذة الخارجية عن طبيعة المناخ في سورية قديماً، اذ نجد فتحات متحركة تعرف باسم المصاريع هي عبارة عن قطع مستطيلة الشكل مصنوعة من خشب الزيزفون الطبيعي ومثبّتة من زوايا مختلفة. والسبب في عدم احتوائها على زجاج يعود الى محاولةٍ للوقاية من اشعة الشمس المحرقة المرتفعة. فقد كانت هذه النوافذ الخشبية تغلق نهاراً وتفتح ليلاً على مصراعيها، سامحة لهواء الليل البارد بالدخول. يغطي ارضية الغرفة رخام ابيض يصبح امام المحراب ذا اشكال هندسية ومطعّماً بقليل من الرخام الاحمر. وتفترش الغرفة سجادة غنية بألوانها مع خلفية داكنة ونماذج مثلثة الشكل حمراء باهتة او مذهّبة ترمز الى الثالوث القديم: الجسد والعقل والروح. وتمتد على جانبي الغرفة وعلى طول جدرانها مقاعد طويلة منجدة، قواعدها رخامية مزيّنة بالفسيفساء باللونين الابيض والاحمر. وعلى سطحها وسادات ثخينة مستطيلة الشكل، مغطاة بنسيج حريري صقيل مذهّب يحتوي سطحه على خطوط مسطّرة باللونين الاحمر القاني والبني، فيسري في الغرفة فيضٌ من التوهج والتألق. وعلى رغم صغر مساحة هذه الغرفة التي لا تتجاوز العشرين متراً مربعاً، الا انها كبيرة بمدلولها لأنها تقدم نموذجاً لتمازج الحضارات. فقطعها الفنية تحمل ومضات فارسية ولمحات بيزنطية واوروبية… الا ان الشكل والتصميم والصناعة تظل سورية عربية خالصة. اجمل عبارة صوّرت جمال الغرفة السورية - اللبنانية نُشرت في صحيفة جامعة بتسبرغ سنة 1943 عندما قال احد الزائرين وقد بهرته عظمة هذه الغرفة: "ان الكلمات لا تكفي لوصف ما رأيت… لكنني اتخيلها كصندوق جواهر صغيرة". * مهندس سوري مقيم في بتسبرغ.