يمكن القول بدقة إن عقد التسعينات من قرننا هذا شهد اهتماماً متنامياً من قبل العقل السياسي العربي المعاصر بالجمهورية التركية. ودفعت الأحداث المتلاحقة التي شهدها هذا العقد حرب الخليج الثانية، التحالف الإسرائيلي - التركي، تنامي تيار الإسلام السياسي في تركيا إلى درجة وصوله الى الحكم، الحشود التركية على الحدود السورية، قضية عبدالله أوجلان الزعيم الكردي المسجون في جزيرة ايمرلي في بحر مرمرة... الخ، إلى الاهتمام بالدور التركي وأبعاده في منطقة الشرق الأوسط. والذي تتبع تظاهرات العقل السياسي العربي في تناوله لما يجري في تركيا وما حولها، يلحظ نشاطاً ملحوظاً. فأغلب الصحف والدوريات والمجلات لا تكاد تخلو من الحديث عن تركيا حتى قبل قضية أوجلان. وقد أفرد العديد من الدوريات المتخصصة ملفات متخصصة عن تركيا ودورها في المنطقة، وعما تنشره الصحف التركية... الخ. وقد لفت نظري ثلاثة كتب متخصصة صدرت في نهاية 1998 يبحث كل منها وعلى طريقته في الشأن التركي. الأول وقد كتبه الدكتور سيّار الجميل، من العراق، وهو بعنوان "العرب والأتراك: الانبعاث والتحديث من العثمنة إلى العلمنة"، وهو صادر في بيروت عن "مركز دراسات الوحدة العربية". أما الثاني فهو صادر أيضاً عن المركز نفسه، وهو من تأليف الدكتور جلال عبدالله معوض، بعنوان "صناعة القرار في تركيا والعلاقات العربية - التركية". أما الكتاب الثالث، فهو من تأليف الباحث اللبناني المختص في التاريخ واللغة التركيين، محمد نورالدين وعنوانه "تركيا، الجمهورية الحائرة: مقاربات في الدين والسياسة والعلاقات الخارجية"، عن "مركز الدراسات الاستراتيجية". أعود للقول إنه إذا كان كتاب سيار الجميل عن "العرب والأتراك" محكوماً بالمقارنة في البحث عن مسار التحول من العثمنة إلى العلمنة، وما ينطوي على ذلك من مفارقة في المسارات، فإنه، في خاتمة الكتاب، يسوقنا إلى تساولين مهمين ومركزيين: الأول، هل ستغدو تركيا فعلاً زعيمة للشرق الأوسط؟ أما الثاني، فما هو مستقبل العرب والأتراك في ظل الخيارات المتاحة؟ وفي جوابه عن التساؤل الأول المضمر بالمقارنة بين العرب والأتراك، يرجح الباحث بروز تركيا كزعامة جديدة في الشرق الأوسط. ومع إقراره بحجم المشكلات التي تعاني منها المشاكل العرقية والدينية والطائفية والأقلياتية وتفاقم النزعات الانفصالية، إلا أنها، من وجهة نظره، لا تقارن أبداً بحجم المشاكل الداخلية والاقليمية والدولية التي يعانيها العرب، وفي مقدمها القضية الفلسطينية والتحديات الصهيونية، وأزمة العلاقات العربية وما يتبعها من مشاكل. وهذا يعني، من وجهة نظر الجميل، ان تركيا على مشارف زعامة الشرق الأوسط. أما التساؤل الثاني عن مستقبل العرب والأتراك في ظل الخيارات المتاحة، فهو يرى، وفي ظل ما يشهده العالم المعاصر من تحولات، أن اخفاقات واسعة ستصيب العرب والأتراك معاً في المستقبل المنظور، ولكن ليس بالدرجة نفسها نظراً إلى ما تنفرد به تركيا من الخصوصيات والروابط والعلاقات، وهذا يعني أنه في ظل الخيارات المتاحة، فإن مستقبل الأتراك أفضل، شرط ألا يتناسوا الخيار الوحيد الذي يجد تعبيره في الحفاظ على مصالح الشرق الأوسط بدلاً من الابتعاد عنها والسعي الى الحقاق بالقطار الأوروبي، وهذا ما يفرض عليهم التعاون مع العرب بدلاً من حالة الجفاء والعداوة. أما كتاب الدكتور جلال معوض، فهو يبحث، كما أسلفنا، عن مستقبل العلاقات العربية - التركية بعد ان يدرس بدقة صناعة القرار في تركيا، وهذا هو دأب الدكتور معوض منذ أواسط عقد الثمانينات وحتى اللحظة المعاصرة. وفي بحثه عن السياسة التركية تجاه المنطقة العربية، يرى الباحث أنها تتمتع بقدر كبير من الفطنة والذكاء ووضوح الرؤية بشأن مصالح تركيا وآليات تنفيذها بالاستفادة من الأوضاع القائمة حالياً، مع الأخذ في الاعتبار التطورات المحتملة لهذه الأوضاع. كما يرى ان السياسة التركية تقوم على تعدد الخيارات واستنادها إلى رؤية ثابتة وواضحة للمصالح القومية التركية وضرورة تأمينها وتحقيقها بصرف النظر عن أي تغيير يطول القادة أو صانعي القرار. وهذا هو القاسم المشترك لدى القادة الأتراك على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم السياسية ممن يحرصون وباستمرار على تحقيق المصلحة القومية لبلادهم. ومن هنا يرجح الباحث استمرار التوتر في العلاقات التركية - العربية، وربما تفاقم حدتها، نتيجة استمرار تركيا في سياستها وتحركاتها، لا سيما على صعيد علاقاتها مع إسرائيل وأميركا ودورها في شمال العراق وأساليب إدارتها لعلاقاتها مع سورية وثبات موقفها ازاء مشكلة المياه. وهنا لا يجد الباحث من وسيلة إلا التوجه إلى صنّاع القرار في الوطن العربي من أجل مزيد من التضامن والتنسيق العربي في ما بينهم لمواجهة التحديات وتخفيف التوترات التي تنهض على قاعدة كسب ود تركيا بدلاً من خسارتها سياسياً. أما كتاب محمد نورالدين فيندرج، وكما أسلفنا، في الصلب من اهتمام الباحث، ويأتي تتويجاً لكتابين سابقين له عن الموضوع نفسه. الأول بعنوان "تركيا في الزمن المتحول: قلق الهوية وصراع الخيارات"، دار رياض الريس، 1997، والثاني بعنوان "قبعة وعمامة: مدخل إلى الحركات الإسلامية في تركيا"، دار النهار، 1997. قوبل أن يبحث نورالدين في حيرة الجمهورية الاتاتوركية الكمالية حيال دول الجوار الجغرافي وصولا إلى قضية كوسوفو في البلقان، يتساءل في المقدمة: كيف السبيل إلى الوصول إلى تركيا؟ ومن وجهة نظره فان هذا التساؤل الذي يلقي بثقله علينا كعرب يقول ضمناً اننا عجزنا عن الوصول إلى تركيا، واننا مدعوون لأن نسلك أكثر من طريق وأولها طريق المعرفة، لأننا لما نزل نجهل تركيا، من وجهة نظره، ونجهل آليات الوصول إلى المعرفة وكيفية اتخاذ القرارات وارتباط ذلك بمسألة الديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان. ولذلك فإن المطلوب، كما يرى نورالدين، تحديد آليات التواصل مع تركيا، ومن ثم تحديد المصالح وعوامل الجذب، وأخيراً تعزيز التضامن العربي حيث لا زالت الخلافات السياسية العربية تؤثر على صناعة الموقف العربي حيال تركيا، الأمر الذي يشجع الأخيرة على التمادي في علاقاتها مع إسرائيل وفي استباحة شمال العراق وفي تهديد سورية. ويستنتج مما سبق أن العقل السياسي العربي لم يزل أسير تشتته وجهله بالآخر، اضف إلى ذلك كونه عرضة للتشرذم لتراجع النظام الاقليمي العربي وانحساره. وهذا يعني ان التوترات ستكون هي القاعدة في علاقات الجوار الجغرافي كما يذهب إلى ذلك جلال معوض.