تسجيلات ريتشارد نيكسون تعمّ وتشيع، وتنتقل الى السوق. العنوان الذي استرعى اهتمام الصحافة بالتسجيلات، هو ان الرئيس الأميركي السابق كان لا سامياً. لقد اطلق بحق افرادٍ من اليهود، كما بحق اليهود ككل، عدداً من النعوت والصفات النمطية المعهودة، فلم يستثن الا اشخاصاً قليلين عملوا معه: كمستشاره للأمن القومي ثم وزير خارجيته هنري كسينجر، وكاتب خطاباته الصحافي وليم سافاير. مع هذا فريتشارد نيكسون كان بين اكثر الرؤساء الأميركان دعماً لاسرائيل. يشهد على ذلك موقفه ابان حرب تشرين الأول اكتوبر 1973 وجسر الامداد الشهير الذي أقامه، كما تشهد عبارة غولدا مائير بأن صاحب ووترغيت كان أكثر الذين عرفهم البيت الأبيض صداقةً لدولتها. ريتشارد نيكسون حالةٌ ينبغي التفكير فيها دائماً بقصد... تجنّبها: اللا سامية حيال اليهود مقرونةً بالدعم المطلق للدولة العبرية. طبعاً المقارنة بين نيكسون وأدولف هتلر في غير موضعها دائماً، غير اننا يمكن ان ندفع المعادلة النيكسونية الى أقصى أقصاها الهتلري: درجةٌ من اللا سامية تذهب بعيداً جداً والى حد الاجتثاث، بحيث لا يعود من الممكن دعم دولة يهودية، او مشروع دولة يهودية، او اي شيء يهودي. غير ان الكارثة التي تترتب على اللا سامية في شكلها النازي، تجعل دعم مشروع الدولة اليهودية مطلباً ورغبة عالميين. وفي هذه الوجهة المترتّبة على السلوك اللا سامي الغربي، يضيع "التفصيل" الفلسطيني. وبالفعل، وفي صياغة اكثر تطرفاً بما لا يقاس، كان الموقف الاستئصالي لهتلر حيال اليهود حجر الرحى في ولادة دولة اسرائيل: في جعل المشروع الصهيوني قابلاً للتحقق. فحين تحقق المشروع على حساب الفلسطينيين، ظهر من يقول إن هتلر أحرز انتصاره بعد هزيمته ورحيله. الحالة الهتلرية القصوى، والحالة النيكسونية الدنيا، ينبغي ان تحضّا على التفكير والمساءلة. والفكرة التي ينبغي تكرار طرحها اليوم، فيما السلام يتقدم بقدر من التعثّر، هي صوغ موقف مفيد، فضلاً عن كونه انسانياً ومعاصراً. فاذا صحّ ان الفلسطينيين ضحايا لضحايا النازية، وجب النضال للربط بين التعويض عنهم والتعويض عن ضحايا النازية اليهود، بل النضال لضم الفلسطينيين الى قائمة المنكوبين بهتلر وباللا سامية الغربية. وهو حرفياً "نضال" لأنه يصطدم بعقبتين ليس من السهولة تذليلهما: الأولى، تطول نظرية الفرادة اليهودية التي تنفر من اشراك اي طرف آخر معها في خانة "الضحية". وحين تنطلق هذه النظرية من اسرائيل تحديداً، تضاف اليها رغبة استئثارية اخرى: عدم رؤية طريق الآلام الفلسطينية في الوصول الى هدف الدولة اليهودية، كما لو ان الأخيرة نجمت عن الطبيعة لا عن التاريخ. والثانية، تطول الفكر السياسي والثقافي العربي الذي لا يزال بعيداً جداً عن ادراك أهمية المحرقة، حتى لا نقول: تصديق حصولها أصلاً. كما لا يزال عاجزاً عن فهم العلاقة بين اللا سامية الغربية ومأساة الشعب الفلسطيني. ويخشى أن يكون بيننا، بعد كل ما جرى، من يستمع بمتعة الى تسجيلات نيكسون، او من تدغدغه انتصارات هايدر في النمسا، والله أعلم...