لم يكن المزارعون الأميركيون، ولا سيما في مناطق ولايات "الوسط الغربي" المنتجة، خصوصاً، للحبوب، قد غفروا للرئيس الأميركي جيمي كارتر، الحظر الذي فرضه على شحن الحبوب الى الاتحاد السوفياتي، حين قامت قوات هذا الأخير بغزو افغانستان. ومن هنا، حين اعلن يوم 21 تشرين الأول اكتوبر 1980، ان واشنطنوبكين توصلتا الى اتفاق شديد الأهمية حول بيع الولاياتالمتحدة كميات هائلة من الحبوب الى الصين خلال السنوات الخمس التالية، كان من الواضح ان كارتر يراهن على ذلك الاتفاق، من أجل تحسين حظوظه الانتخابية ولا سيما في تلك المناطق، مقابل منافسه الجمهوري رونالد ريغان. وكان من الواضح - من ناحية ثانية - ان كارتر يحاول أن يلعب ورقة الصين ضد ورقة الاتحاد السوفياتي. صحيح ان ذلك كله لم يفد كارتر، لأنه جاء متأخراً، حيث أن الانتخابات الرئاسية الأميركية التي جرت في الرابع من الشهر التالي، أي بعد أقل من اسبوعين من توقيع ذلك الاتفاق، أسفرت عن فوز رونالد ريغان. لكن المهم في الأمر، ان الصين تمكنت حسب ذلك الاتفاق من الحصول على ما هي في حاجة اليه من القمح، كما ان المزارعين الأميركيين تمكنوا من تصريف ملايين الأطنان من حبوب كان الحظر على بيعها الى السوفيات قد أوقعهم في ورطة بشأن تصريفها. ولقد كشفت تلك المسألة، من ناحية أخرى، عن سلاح "جديد" كان في يد واشنطن وبإمكانها عبره أيضاً أن تتحكم في سياسة العالم، وتحديداً في سياسة خصومها السياسيين. اذ أن جزءاً كبيراً من الصراع والتنافس، خلال تلك السنوات، خضع لهيمنة ذلك السلاح ولقدرة واشنطن على التحكم به، بشكل جعل يومها مراقبين عرباً يتحسرون لأن العرب يملكون سلاحاً، هو من الناحية المبدئية أشد خطورة واستراتيجية من سلاح الحبوب ونعني به سلاح النفط لكنهم عاجزون في نهاية الأمر عن التحكم به تحكم واشنطن بسلاحها. المهم، وبعيداً عن هذه الهموم العربية، شهد يوم 21 تشرين الأول ذاك، يومها، ذروة المناورات العالمية حول قضية الحبوب. وبدا تفوق الولاياتالمتحدة في هذا المجال، أولا من خلال كونها أكبر مصدر للحبوب في العالم، والطرف المسيطر على الشركات الخمس العالمية الكبرى التي تتولى التفاوض حول الحبوب. ولقد قضى الاتفاق الذي وضعت تفاصيله النهائية في ذلك اليوم، في بكين، على أن يوقع خلال اليومين التاليين، بأن تسلم الولاياتالمتحدةالصين 6 ملايين طن من الحبوب، في كل عام، طوال الأعوام الخمسة التالية. وبأن يكون خمس الكمية من الذرة، وأربعة أخماسها من القمح، وذلك تبعاً للأسعار الدولية المعمول بها في ذلك الحين، مما عنى أن القيمة السنوية للصفقة تبلغ نحو بليون دولار. تبعاً لذلك الاتفاق كان من شأن الولاياتالمتحدة التي تصدر 60 في المئة من مجموع صادرات الحبوب في العالم ان تصبح أول مصدّر للصين التي سبق لها ان عقدت اتفاقيات من ذلك النوع مع كل من الارجنتين واستراليا وكندا وفرنسا. ولقد اعتبر الاتفاق الصيني - الأميركي يومها، أكبر اتفاق من نوعه في تاريخ العلاقات التجارية بين الدول، علماً بأن الولاياتالمتحدة كان سبق لها ان صدّرت الحبوب الى الصين لكن صادراتها طوال سبعة أعوام 1973 - 1979 لم تزد في مجموعها عن 5.5 مليون طن. يومها كان السؤال: هل سيؤدي هذا الاتفاق الى ازعاج موسكو؟ الخبراء أجابوا: أبداً، لأن موسكووواشنطن كانتا مرتبطتين باتفاق مماثل منذ العام 1975. وذلك الاتفاق لم يتأثر، في ذلك العام على الأقل بالحظر الذي اتخذ بداية ذلك العام نفسه ضد الاتحاد السوفياتي. وبما أن المرشح الجمهوري رونالد ريغان، كان معارضاً للحظر، واستخدمه سلاحاً ضد خصمه الرئيس الديموقراطي، بات من الواضح ان موسكو سوف تواصل الحصول على القمح في حال ما إذا جاء ريغان رئيساً. وفي الحالتين بدا من الواضح يومها ان واشنطن، ولا سيما بسبب العجز الانتاجي لدى خصومها الأقوياء، السوفيات والصينيين، تعرف وستعرف أكثر وأكثر كيف تلعب ورقة الحبوب الى أقصى الحدود. والشاطر، يومها، من كان يمكنه أن يحول الورقة من سلاح في السياسة الخارجية الى سلاح في السياسة الداخلية. وكان الشاطر يومها رونالد ريغان، والمهزوم جيمي كارتر. الصورة: جيمي كارتر، لعبة الحبوب انقلبت ضده.