لقد مرت أمتنا العربية بفترات طويلة من الصراعات الايديولوجية المتتابعة والمملة في نفس الوقت، والتي أرى أن لبها والدافع المحرك لها هو الغلو الممزوج بالجهل، الغلو في الدين، الغلو في العلمنة، الغلو في التغريب، الغلو في اليسار، وأخيراً الغلو في المطالبة بالحرية. ومما يؤسف له أنه كلما نما الغلو في اتجاه قابله غلو في الاتجاه الآخر فيكوّن بذرة لصراع يتصاعد بصورة غير منطقية، هذا الصراع يحمل في طياته كل شيء إلا الحق، والمنطق، والثوابت الأساسية، والمسلمات العقلية المشتركة، وفي نهاية الأمر يصطدم ذلك الاتجاه والاتجاه الآخر بواقع يخالف العقل والمنطق مما يؤدي بكلا الاتجاهين الى جمود يشل القدرة الابداعية الفكرية. ومما يؤسف له أن من يسمون أنفسهم بالطبقة المثقفة، والذين يتصدرون اليوم وسائل الإعلام، ومنها الصحافة بالطبع، نراهم لا يترددون في إقحام أنفسهم في مصيدة الغلو، علموا ذلك من أنفسهم أو جهلوه. ومن خلال متابعتي المستمرة لأعمدة الصحف العربية استطيع أن أجزم ان ظاهرة الغلو في الطرح ليست استثنائية، بل هي اليوم قاعدة لا يستثنى منها إلا القلة. ففي هذه الأيام على سبيل المثال تثار قضية الحرية الفكرية في صحافتنا العربية بصورة شبه يومية حتى نحت منحاً غاليا تطالب فيه بكسر الحاجز النفسي الذي يقف حائلاً أمام نقد ثوابت الدين الاسلامي. لا أعرف ما هي حدود الحرية الفكرية التي يطالب بها المثقفون العرب؟ أهذه الحدود تقف على نقد الواقع العربي الحالي؟ أم تتعدى ذلك الى نقد التراث الاسلامي القديم؟ أم تتعدى الى ما وراء ذلك؟ ان ما يتضح اليوم تلميحاً أحياناً وتصريحاً أحياناً أخرى أنهم يريدون نقداً بلا حدود. فعلى سبيل المثال نرى هذه الأيام أصواتاً تعلو هنا وهناك وتحذر من الحظر الأصولي الداهم، وهم لا يعنون بذلك الخطر الارهابي الدموي، ولا الخطر الفكري الظلامي، بل يعنون الخطر الذي زج بالدكتور أحمد البغدادي الى السجن، ونفى نصر أبو زيد عن بلاده، وسيقدم مارسيل خليفة الى المحاكمة. لا أدري ما الذي تريده هذه الأصوات؟ ان كان إهدار الدم أو التهديد بإهدار الدم أمر بشع، واللجوء الى المحاكم المشروعة فيه كبت للحرية وحقوق الانسان وخطر داهم فما هو الحل برأيهم؟ هل هو اطلاق العنان بأن يقول القائل ما يشاء، ويقتحم في سبيل هواه وفكرته كل داهية؟ هل من العقل أو المنطق أن يعبر أي انسان عما يدور في خلده في أي لحظة، وعلى أي صورة، وضد أي شخص، كائن من كان؟ لا أدري إني لا أرى شبيهاً لهذا المنهج إلا الفوضى العارمة. عبدالاله بن عبدالعزيز الفنتوخ - الريا