عندما قرّر المزارعون الفرنسيون في آب اغسطس الماضي التحرّك إحتجاجا على العقوبات التي فرضتها الولاياتالمتحدة على عدد من المنتجات الزراعية الفرنسية والاوروبية، بسبب قرار اوروبا إغلاق أسواقها أمام لحم البقر الأميركي المغذّى بالهورمونات، عمل أحد قادة النقابات الفرنسية جوزيه بوفيه، على تحطيم محتويات أحد المطاعم التابعة لشبكة "ماكدونالدز" الأميركية. وعندما قرّرت شركة "ميشلان" الفرنسية لصناعة الإطارات تسريح 7500 من العاملين لديها، رغم تسجيلها أرباحاً مرتفعة، تظاهر عمالها وندّدوا بالقرار الذي يغلّب مصلحة المساهمين، وهم اغلبهم من الأميركان، على مصلحة اليد العاملة الفرنسية. وندّدت الصحف الفرنسية وعدد من المسؤولين الحاليين والسابقين بالقرار من الزاوية نفسها، مركّزين على أن غالبية المستفيدين من أرباح "ميشلان" اميركان، في حين ان المعرّضين للصرف عمال فرنسيون. وعندما زار رئيس الجمهورية الفرنسي جاك شيراك أحد المعارض الزراعية في منطقة بوماكل الريفية الفرنسية، لم يسعه إلا أن يؤكّد عزم فرنسا والإتحاد الاوروبي على اعتماد "موقف هجومي" خلال مفاوضات المنظمة الدولية للتجارة التي ستعقد في سياتل الولاياتالمتحدة في أواخر تشرين الثاني نوفمبر المقبل. وقد عاد رئيس الحكومة الفرنسي ليونيل جوسبان ليؤكّد الموقف نفسه عندما زار بدوره بوماكل، فقال ان فرنسا عازمة على التشدّد خلال المفاوضات المقبلة في سياتل، وأن نظم وإجراءات الحماية التي يحكى عنها ويفترض مكافحتها، ليست في اوروبا وإنما "في مكان آخر"، والمقصود هنا الولاياتالمتحدة التي لم يسمّها جوسبان. ورغم الإنسجام السياسي الواضح الذي يتأكّد تكرارا بين الولاياتالمتحدةوفرنسا، كان لا بدّ لشيراك وجوسبان أن يتبنيا بطريقة أو بأخرى النقمة التي باتت تسود العديد من الأوساط الفرنسية، حيال النهج الذي تعتمده الولاياتالمتحدة في تعاملها التجاري والاقتصادي مع فرنسا واوروبا عموما، وحيال تراكم الخلافات التجارية بين الطرفين. وفي مؤشّر إضافي على حال النقمة هذه أظهر استطلاع أجراه معهد "بي. في. أ" أن 75 في المئة من الفرنسيين مستعدون لمقاطعة البضائع الاميركية في حال قيام نزاع تجاري بين الولاياتالمتحدة واوروبا. والواقع أن هناك اليوم في فرنسا من ينظر الى العولمة على أنها مفهوم اميركي تم تحديده بحيث يكون بمثابة آلة لا ترحم، تسعى الى ابتلاع الدول الصغيرة والمؤسسات الصغيرة والمزارع الصغيرة وصغار التجّار والمصارف. وهناك من يعتبرها بمثابة ديكتاتورية للمجموعات الإنتاجية الاميركية العملاقة، ولا يسعهم سوى الوقوف في وجهها والتعرّض لرموزها وفي مقدمها "ماكدونالدز" التي تُعد أبرزها، هي التي بات بعض الفرنسيين يسمونها بالامبراطورية الاميريكية بعد "كوكاكولا". والتعرّض الى هذه الرموز على غرار ما فعله بوفي في آب الماضي، تعبير عن الرفض للإنتاج الضخم سواء كان غذائيا أم ثقافيا، ومسعى لنبذ منطق "العقلية الواحدة" التي تجسدها شبكات الإنتاج الاميركية القادرة يوميا على تعويم الأسواق بمئات الملايين من نسخ السلعة الواحدة. ويرى هولاء أنهم في حالة مواجهة شرعية بين مفهومين للحياة وللإنتاج والإستهلاك، وهم عازمون على الدفاع عن أسلوب العيش الخاص بهم وعلى المضي في رفع راية جبنة ال"روكفور" في وجه منطق الوجبات السريعة الاميركي. وسط هذه الأجواء تسعى الأوساط الفرنسية المطّلعة على الخلافات التجارية الاوروبية - الاميركية، للتخفيف من شأنها، فتقول بضرورة ادراج هذه الخلافات في إطار العلاقات بين جانبي المحيط الاطلسي. فالاتحاد الاوروبي هو المستثمر الاول في الولاياتالمتحدة، والولاياتالمتحدة هي المستثمر الاول في الاتحاد الاوروبي. وتؤكّد هذه الأوساط أن الخلافات التجارية والعقوبات لا تمثّل سوى 1ر0 في المئة من مجمل المبادلات بين الطرفين، وتتناول مسائل بارزة إعلاميا من الناحية السياسية، وإنما الجدوى الاقتصادي منها محدود الأهمية. ومن ضمن هذه الخلافات ما هو مرتبط بالنهج الاميركي التقليدي الآحادي الجانب، وهذا يشمل كل ما يدور حول قانوني "هلمز برتون" و"داماتو" اللذين يحددان اجراءات عقابية بحق الشركات العالمية التي تستثمر في ليبيا وايران وكوبا. وهذه الخلافات تراوح مكانها. فأحيانا توضع جانبا وأحيانا تطفو على السطح وتتأزّم، لكنها لا تعبّر، على حد الأوساط الفرنسية، عن النوعية الفعلية لطبيعة العلاقات بين الجانبين. لكن نفس هذه الأوساط تقرّ بأن قانوني "هلمز برتون" "وداماتو" لم يأتيا ردّا على تطوّر أو تخوّف تجاري بين اوووبا والولاياتالمتحدة، بل يندرجان في صلب النهج العقابي للولايات المتحدة، تحسباً لأخطار محتملة قد تتعرّض لها منتجاتها. وكان قد تم سنة 1998 التوصّل الى ما يمكن وصفه بالاتفاق الجنتلماني، بحيث تبذل الولاياتالمتحدة ما في وسعها لتجنّب تطبيق القانونين بحق الشركات الاوروبية، على أن يبذل الاتحاد الاوروبي ما في وسعه لتحسين اوضاع حقوق الانسان واوضاع الديمقراطية في الدول التي يشملها القانونان. لكنه سرعان ما تبيّنت هشاشة الإتفاق الذي يستند الى مدى رغبة الكونغرس الاميركي في التعاون والموافقة على استثناء الشركات الاوروبية من العقوبات المنصوص عليها في القانونين. فقد احتُرم الاتفاق في البداية لكنه اصبح الآن عرضة لإنتهاكات متعددة، خصوصا مع دخول الولاياتالمتحدة الانتخابات الرئاسية التي تترافق تقليديا مع تصاعد نفوذ مجموعات الضغط المختلفة. وإضافة الى الخلافات المترتبة على القانونين، هناك خلافات ذات طابع تجاري بحت ترتبط بالاحتكاك المتصاعد بين الكتلتين التجاريتين الاوروربية والاميركية. فالولاياتالمتحدة تجد نفسها اليوم، بعد النمو الكبير الذي شهدته في السنوات الماضية نتيجة الازمة الآسيوية، في وضع المشتري الدائم، وهذا يثير بالطبع قلقا عميقا بالنسبة الى مستقبل النمو الاميركي، خصوصا في ظل الاجراءات المختلفة التي تتخذها اوروبا وتُفسّر اميركيا على انها اجراءات حماية. وتؤكّد الاوساط الفرنسية وجود اختلاف في التعامل مع المشكلات. فاوروبا تحل مشكلاتها بطريقة تختلف عن طريقة اميركا، وهي تعتمد في حلولها معايير مرتبطة بمصلحة المستهلك والبيئة في حين ان الاميركان يعتبرون اي مسعى اجرائي وتنظيمي تتخذّه اوروبا استنادا الى هذه المعايير اجراء حماية موجّها ضدهم. فالأميركيون يتخوّفون من أن يؤدّي توسيع الاتحاد الاوروبي ليشمل دولا في اورروبا الوسطى والشرقية، الى حواجز جمركية تعتمدها هذه الدول ضد منتجاتهم. ولذا فإنهم يسعون منذ الآن للحصول على تعهدات من الدول الاوروبية الشرقية المرشّحة لعضوية الاتحاد تضمن لهم رفض اقامة مثل هذه الحواجز مستقبلا، في مسعى هدفه زرع الغام مسبقة امام النظم الاتحادية الاوروبية. والمؤكهد ان هذا النهج الاميركي مرتبط بالتداخل القائم بين المؤسسات الانتاجية وتمويلها للنشاط السياسي في الولاياتالمتحدة، والذي غالبا ما يؤدّي الى بروز الخلافات التجارية نتيجة الضغوط التي يمكن لهذه المؤسسة او تلك ممارستها على السياسيين. وهذا ما يؤكّده الخلاف المسّمى بخلاف "بيرنو ريكارتا". فهذه الشركة كانت تملك حقوق انتاج صنف من مشروب "الروم" يُعرف باسم "هافانا كلوب". لكنها تعرضّت لملاحقات قضائية من قبل شركة "مارتيني باكاردي" الاميركية، التي تمكنّت بذلك من الاستيلاء على حقوق الشركة الفرنسية في "هافانا كلوب"، بموجب قانون "هلمز بورتون" الذي يحدّد صيغة التعامل مع الممتلكات التي تمّت مصادرتها في كوبا عقب الثورة الاشتراكية. فنجحت باكاردي في حمل الكونغرس على اعتماد قرار يمنع القضاء الاميركي من الاقرار بحق ملكية شركة اوروبية لماركة معيّنة في كوبا إن لم تحصل على موافقة الطرف الذي كان يملك الشركة قبل الثورة. وهذه القضية مرفوعة الآن أمام منظمة التجارة الدولية التي تعمل على معالجتها. وأمام المنظمة ايضا أحد أكبر الخلافات التجارية الاميركية الاوروبية ويتناول ما يسمّى ب"مبيعات الشركات الاجنبية"، والذي يتيح لشركات اميركية عبر فروع لها في جزر الباهاما او سواها من مناطق خارجة عن نظم الضرائب، تركيز ارباحها هناك وعدم تسديد أي رسوم ضريبية عنها. كما يتيح ذلك للمؤسسات الاميركية عدم تسديد ضرائب بقيمة 150 بليون دولار سنويا، ملحقاً ضررا بالغا بالمؤسسات الاوروبية العاملة في الولاياتالمتحدة. وهناك أيضا أمام منظمة التجارة الدولية خلاف يُعرف بإسم "القطاع 301"، وهو قانون اميركي يسمح للولايات المتحدة بفرض عقوبات من طرف واحد على صاحب أي ممارسة تعتبر واشنطن انها تنطوي على تمييز بحق تجارتها. وقد استعانت الولاياتالمتحدة بهذا القانون في إطار الخلاف بينها وبين اوروبا حول توزيع حصص الموز بين دول اميركا اللاتينية واسبانيا ومناطق ما وراء البحار الفرنسية المنتجة للموز. ولكن يبقى الخلاف حول لحم البقر المغذّى بالهورمونات أكثر الخلافات رمزية وأقدرها على تحريك مشاعر معادية للولايات المتحدة. فقد نجم هذا الخلاف عن قرار الاتحاد الاوروبي حظر استيراد المواشي الاميركية المغذاة، فعملت الولاياتالمتحدة على فرض مجموعة عقوبات نصّت على حظر دخول عدة منتجات غذائية فرنسية واوروبية الى أسواقها. وترى الأوساط الفرنسية المطلعة ان واشنطن تصرّفت في هذه القضية بشكل منفرد ايضاً، وتجاوزت الاتفاق القائم في اطار المنظمة الدولية للتجارة والذي يخوّل أي دولة لديها شكوك مبرّرة علميا بتأثيرات سلعة ما على الصحة العامة، اتخاذ اجراء احتياطي يمنع دخولها الى أسواقها. والمشكلة ان الاتحاد الاوروبي مضطرّ للإكتفاء بالشكوك المبرّرة في دراسات علمية متعددة اجريت حول البقر بالهورمون والأمراض السرطانية المرتبطة باستهلاكها. لكن أيّا من هذه الدراسات لم تتوصّل حتى الآن الى ابراز البراهين القاطعة التي تطالب بها الولاياتالمتحدة، لتبرير حظر بيع هذا النوع من اللحوم في الأسواق الاوروبية. وفي غضون ذلك، قرّر الاتحاد الاوروبي اجراء سلسلة من 17 دراسة اختبارية ستظهر نتائجها في العام الفين، حول مخاطر هذه اللحوم، فيما يستمر الحظر الاميركي على المنتجات الفرنسية والاوروبية مما يحرم المنتجين الاوروبيين تسويق منتجات بقيمة 8ر116 مليون دولار سنويا في الاسواق الاميركية وهي قيمة تعادل ما تخسره ا لولايات المتحدة من جراء القرار الاوروبي حول اللحوم. وفي إنتظار البراهين العلمية المرجوّة لتسوية هذه القضية، هناك ايضا مشكلة البذور والمتجات الزراعية الاميركية المحوّلة جينياً والتي يرفض الاتحاد الاوروبي تسويقها واستخدامها لأسباب صحية، وخصوصا بيئية، متعددة. فأوروبا تعتبر ان استخدام هذا النوع من البذور يفرض وتيرة انتاجية سريعة تتنافى مع الوتيرة الطبيعية للمواسم الزراعية، ومن شأنه ان يؤدي الى نتائج سلبية جدا على صعيد البيئة. وهذه الخلافات، على تنوّعها، قد تجد ما يبررها في الخطوات المثابرة التي تبذلها اوروبا لتعزيز اطرها وتوسيعها، ما يحمل الولاياتالمتحدة على التحرّك تداركا لتهديدات محتملة قد تواجهها مصالحها التجارية في القارة. لكن الاهم هو وجود مفهومين متباينين للعولمة بين الكتلتين التجاريتين: فالولاياتالمتحدة ترى فيها انفتاحا مطلقا وغير مشروط على منتجاتها، في حين يبدو الاتحاد الاوروبي أكثر ميلا لتنظيم هذا الانفتاح ومراقبته بشكل لا يعرّض أمنه الغذائي والسكاني لأي ضرر. اما تسوية هذه الخلافات فتبقى، في رأي الأوساط المطّلعة، ممكنة بالحوار الدائم والتقارب والاقناع. وبإنتظار التوصّل الى هذا، يبدو مرجحا ان تعود فرنسا لتشهد فورات غضب جديدة تستهدف الولاياتالمتحدة من قبل المتضررين في معيشتهم اليومية والرافضين لمفهوم العولمة الاميركي